يستقي الفيلم الفرنسي (400 ضربة - The 400 Blows) أهميته من عدة نواحٍ، فهو أول أفلام المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو بعد أن قضى فترة من شبابه كناقد سينمائي في كراسات السينما التي كان يديرها الناقد الفرنسي الرائد في وقته أندريه بازان، كما أنه يعتبر اللبنة الأولى لما أطلق عليه الموجة الفرنسية الجديدة، التي اشتهرت بأسماء مخرجين كبار على رأسهم تروفو وغودار وشابرول وغيرهم، ممن قادوا التيار الذي يعد بازان الأب الروحي المؤسس له، والذي ظهر كتيار يغاير سينما هوليوود، ويحمل عناصر تمثل الثورة على مفاهيم سائدةً في وقتها، لتبرز مكانها مفاهيم جديدة مثل "الفيلم يشبه مخرجه"، و"عمق المجال"، و"هامش التفاصيل"، وتحتفي بسينما رينوار وويلز وهيتشكوك. انطلاقاً من عبارته الشهيرة "الفيلم يشبه مخرجه"، يأتي فيلم تروفو "400 ضربة" - الترجمة التي اشتهر بها الفيلم على رغم الاختلاف البسيط في عنوان الفيلم الأساسي- تطبيقا حقيقيا لهذه العبارة، إذ إن الفيلم في صورته النهائية لا يعدو أن يكون مجموعة ذكريات لطفولة تروفو وجمع من أصدقائه في تلك المرحلة المضطربة من حياته، التي كانت ستقوده إلى الهاوية لو لم تنتشله السينما وناقدها الكبير بازان، ليصبح تروفو فيما بعد أحد رموزها، لكن ذلك لا يعني أن فيلم تروفو مجرد ذكريات، فهو باعتباره قاعدة الموجة الواقعية، يحمل كثيرا من العناصر السينمائية التي أسست للمفهوم ولمدارس أخرى مختلفة لاحقة. كما أنه لم يأت عبر قطيعة عن التجارب السابقة ومفاهيم المونتاج عند أيزنشتاين وبودفكين، وإنما مغايراً لها، برؤى ترى في الصورة الكاملة أهمية أكثر من التفاصيل والتي لا يستغنى عنها من خلال تعميق مجال الصورة، ومن خلال الاستغناء عن المونتاج والقطع قدر المستطاع. فرانسوا تروفو تدور قصة الفيلم عن مراهق اسمه أنطون دونيل - يؤدي دوره جان بيير ليود - يقع في المتاعب تباعاً بسبب سوء الفهم من قبل منزله ممتثلاً في والدته المشغولة عنه وزوجها العطوف ولكن الساذج أيضاً، ومعلمه المتحامل في المدرسة، الذي لا يكلف نفسه عناء سؤاله عما يفعله، بحكم نظام التعليم أو بحكم شخصيته المُستفَزة، كل أولئك وبتغذية سلبية راجعة بينهما، يدفعونه لمحاولة الهروب مرة بعد أخرى، رغم محاولته أن يكون طالباً مجداً في سحابة صيف من مراهقته، لكن اتهامه بانتحال شعر لبلزاك، يجعله يهرب مرة أخرى وأخيرة، وليقرر أبواه أن يبلغا عليه الشرطة التي تعتقله وتضعه في السجن بجوار اللصوص والبغايا، ثم يتم تحويله إلى إصلاحية للأحداث. لقطات من الفيلم أنطون يقرر الهروب من الإصلاحية، ليجد نفسه على شاطئ البحر الذي لم يسبق له أن شاهده، البحر والبر، الطفل والشاب والانتقال بين عالمين لا حدود لهما، ولا مظاهر يمكن أن تساعده حيرته في استكشافها، رغم كل الأوهام التي حاولت المدينة أن تجعلنا نظن أنها منحته شيئاً من الرجولة المبكرة، ربما مشهد مقابلة الإخصائية الاجتماعية يجعلنا ندرك مدى براءة هذا الطفل رغم كل التلوث من حوله، ذلك الكم الهائل من القسوة في مدينة رقيقة مثل باريس، في فيلم لا يحاول مخرجه أن يخبأ حبه الدفين لها، لأنه كما قررنا مسبقاً فيلم يشبه مخرجه!. من المميز في فيلم تروفو أنه استطاع وبقوة نوعية من ناحية نصوص حواراته أو من خلال صورته الواسعة والعميقة والانتقال الفذ والهادئ من مشهد لآخر، بما لا يتعارض مع حيويته التي يستقيها الفيلم من أبطاله الصغار، أن يؤسس لموجة ستؤثر في السينما الفرنسية غائراً والأوروبية من بعدها، وستظل اللقطة الأخيرة مثار إعجاب وتقدير من عشاق السينما ونقادها حول العالم، تلك اللقطة التي يطل فيها علينا أنطون مركزاً نظرته المتسائلة عن المستقبل وعن رأينا في كل ما حدث له وعن حكمنا عليه وعلى مآل حياته، خاتمة قاطعة لكنها ممتدة حتى مع ظهور شارة النهاية، لنظل نفكر بعدها عن مصير ذلك الفتى والآلاف غيره في كل مكان، ممن يصاغ مستقبلهم بسبب سوء فهم لبالغين لم يكلفوا أنفسهم قراءة ما بين السطور. ربما كان تروفو "حفار قبور في السينما الفرنسية" إبان الفترة النقدية في كراسات السينما، قبل أن يدخل مجال الإخراج، لكنه أصبح فيما بعد نحات الروائع في السينما الفرنسية بعد أن صار من فرسانها الكبار بواحد وعشرين فيلماً يصنف الكثير منها ضمن أفضل الأعمال السينمائية تاريخياً، كما أن دراساته السينمائية اللاحقة وكتابه عن المخرج الكبير ألفرد هيتشكوك ضاعفت من أثره الفني البالغ رغم وفاته المبكرة عام 1984م بسبب ورم في الدماغ، ومن دون أن يتم وعده بإخراج ثلاثين فيلماً تحقق رؤيته المميزة لفن السينما ولما يمكن أن تصنعه في خلق واقع آخر متخيل لا ينفصل عن الواقع خارجها. حاز تروفو على جائزة أفضل مخرج من مهرجان "كان" عن فيلمه هذا عام 1959م، ليكون باكورة تاريخه المليء بالترشيحات والجوائز خلال عقدين، سطع فيها نجمه الذي أضاء سماء السينما الفرنسية والعالمية.