طرح مؤتمر «الإعلام والثورة التحريرية الجزائرية»، الذي نظمته كلية العلوم الإنسانية في جامعة علي لونيسي – البليدة2 - في الجزائر، يومي 24 و25 تشرين الأول (أكتوبر)، جملة من التساؤلات من أهمها دور الإعلام في مسار الحركة الوطنية بين سنتي 1919-1954، وموقع الإعلام في مواثيق الثورة التحريرية، وكيف جسَّد الإعلام أهداف هذه المواثيق على الصعيدين الداخلي والخارجي، فضلاً عن تعامل الإعلام الدولي مع الثورة التحريرية، وصورة الثورة التحريرية الجزائرية في الإعلام الراهن. وعليه، فإنه حاول الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها من خلال محاور عدة، علماً أن هذا المؤتمر جاء عشية ذكرى استقلال الجزائر، والثورة التحريرية، في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر). وهنا أودّ أن أقول إنه لكي يكتب تاريخ الجزائر، لا بد أن نعرف أن الذاكرة ترتكز على أمرين أساسيين، هما الرواية الشفوية والوثيقة المكتوبة. ويعتبر التاريخ الشفوي أحد الروافد المهمة في التاريخ البشري. فهذا النوع من التاريخ يعرف بأنه «تسجيل وحفظ وتفسير المعلومات التاريخية لأشخاص مهمين، أو أشخاص عاصروا حوادث مهمة اعتماداً على خبراتهم الشخصية، أو ما سمعوه من حوادث»، أو بمعنى أشمل، إنه التاريخ المروي عن الآخرين. وعلى رغم تأخر الاهتمام بهذا الجانب لحقب تاريخية طويلة، إلا أن التطورات العلمية والتقنية، خصوصاً أجهزة التسجيل والحاسبات بأنواعها، ساهمت في إعطائه دفعاً مهماً وتطويره خلال العقود الأخيرة. ومما لا ريب فيه أن هناك دوراً للإعلام في توثيق التاريخ الشفوي، والذي يُعد مصدراً مكملاً يحدد أو يُصحح الوقائع التي وثَّقتها المصادر التقليدية، وذلك بعد استغلال ما استجدَّ في العصر الحديث من تكنولوجيا المعلومات، منذ بداية ظهور أجهزة التسجيل الصوتي وأجهزة تصوير الفيديو وصولاً إلى البريد الإلكتروني والإنترنت لفرض تغيير الشعارات القديمة، ولصنع ديموقراطية الاطلاع على الأرشيف بالنسبة إلى الأجيال الجديدة. ينبغي أن نكون على وعي بالقيمة التاريخية لمثل هذا النوع من الوثائق، وبالتالي الوعي بقيمة إنتاجها وحفظها وإتاحتها. ولا بد في المقابل من تجنب إنتاج شهادات تافهة وحفظها، إذ إن الاحتياج هنا هو إلى صحافي أرشيفي صاحب بصيرة تمكّنه من تبيّن المصدر الشفوي ذي القيمة التاريخية الأصيلة. لا يزال تاريخ الاحتلال الفرنسي في الجزائر يثير نقاشات حادة على المستويين الوطني والدولي، ذلك أن تصفيته تمت بالدم والحروب والآلام وهروب الأقدام السوداء، ما طبع مقاربات هذا التاريخ بالحقد والمرارة والضغينة والإيهام والمغالطة من خلال محاولة تشويه الأبحاث التاريخية التي تمت منذ أواسط القرن العشرين في فرنسا وخارجها. وعلى مساواةٍ تامةٍ، تسمع في الضفة الأخرى للبحر المتوسط خطاباً توضيحياً يندد بسياسة الإبادة التي قامت بها فرنسا في الجزائر. هو خطاب لا يهمه إلا تصوير الطابع الشيطاني للاحتلال، ويتغافل أصحابه عن الوقائع المعيشة طيلة فترة الاحتلال. إن التاريخ الشفوي مصدر مكمل يحدد أو يصحح الوقائع التي وثَّقتها المصادر التقليدية، وفي ظل عدم توافرها لأسباب تتعلق بالمدة القانونية للاطلاع أو لأنها فُقدت، يستدعي ذلك أحياناً الاعتماد على الشهادات والروايات الشفوية، لجهة أنها ستكون المصدر الأساسي للتوثيق التاريخي. لا وثائق، يعني لا تاريخ. كان ذلك هو الشعار التقليدي في تناول المواد غير الوثائقية في البحث التاريخي، ولكن العصر الحديث بكل ما استجد فيه من تكنولوجيا المعلومات فرض تغيير ذلك الشعار. تأتي قضية التأريخ الشفوي (الفرنسي- الجزائري) لتنطبق عليها محاولات المؤرخين إيراد شروط كثيرة لتحويل الرواية الشفوية إلى رواية مدوَّنة، طالما أن معظم التراث الشفوي يحمل في طياته تناقضات كثيرة مع التاريخ المدوَّن. من ذلك، أن غالبية الروايات الشفوية تسودها ثلاثة مفاهيم ثقافية مهمة، هي: افتقارها لمفهوم القياس الزمني، وعدم وضوح الفكرة التاريخية فيها، والنظر إلى الماضي بمثالية كبيرة، وهذا كلُّه يشكل إحدى المشاكل التي تواجه البحث في التاريخ الشفوي عموماً وليس في موضوعنا فقط. إن من يظن أن الروايات الشفوية لا تصلح كوثائق ومستندات لدراسة التاريخ، قد يتراجع عن رأيه إذا تذكَّر أن غالبية الوثائق المدوَّنة كانت في الأصل روايات شفوية متناقلة قبل أن تدوَّن. وعلى ذلك، فإن الوثائق الشفوية لا تقل أهمية عن المدوَّنة، ولا تتفوق الأخيرة على الأولى، إلا بكونِها تخضع لطرق عدة للتأكد منها، وخلوها من التزوير، ولكن ليس من الصعب أن نضع ضوابط مماثلة لإثبات صحة الوثائق الشفهية قبل تسجيلها، بواسطة آلات التسجيل أو تدوينها. نستنتج مما سلف، أنه بقدر ما يكون الباحث، أو الإعلامي، مندفعاً مهووساً لمعرفة الحقيقة التاريخية، إلا أنه يمكن المؤرخين الجزائريين والباحثين والإعلاميين عموماً، أن يطلعوا على الملفات السرية للغاية ما دام أن فتحها أضحى ممكناً، على أن يقتصر عند التدوين التاريخي، ذكر أسماء وألقاب من صنعوا التاريخ من الأموات فقط، أما الأحياء فتستبدل أسماؤهم وألقابهم بحروف مختصرة، تفادياً لأي حساسية. وهكذا، لا يمكن إهمال ما اتفقنا عليه من أن هذا التراث الشفوي فيه كثير مِن نقاط الاختلاف أو الغموض في بعض جوانب تاريخ المنطقة المدوَّن. وهناك حقيقة أخرى، وهي أنّ المحافظة على التراث الشفوي تعد أمراً مهماً لإبراز الخصوصية الثقافية، التي تعد من القضايا الرئيسة في حياة الشعوب وفي العمل الإعلامي الخاص بهذا البلد أو ذاك. يبقى أن هذا الأمر فطنت إليه «اليونسكو» منذ عام 1984، عندما أعلنت في خطتها آنذاك ضرورة المحافظة على التراث الشفهي أيّاً كان نوعه، وجعلته من محفزات التنمية الوطنية، من خلال العمل على تكثيف تناوله إعلامياً. ومن هنا، أجد أن على وسائل الإعلام عموماً، أن تلعب دوراً كبيراً في فضح ماضي فرنسا الاستعماري في الجزائر، فهذا أفضل من أن يقتصر الأمر على مقاضاة الدولة الفرنسية ومطالبتها بتعويضات، لكن لتحقيق ذلك على نحو مثمر فإنه لا بد من مواصلة السعي لدى باريس لتسلم الجزائر أرشيف ثورتها.