من بين تعريفات المسرح أنه «فن محاكاة الواقع»، فعلى رغم أنه يقدّم الوقائع والأحداث في صياغات فنية متنوعة، فإنه يتضمن القيم الإنسانية للواقع بجماله وقبحه. في هذا السياق، يأتي العرض اللبناني «شَتّي يا دنيا صيصان» الموجّه للفئة العمرية 3 سنوات فما فوق، والذي يشارك في مهرجان مسرح «مركز هيا الثقافي» في العاصمة الأردنية عمّان. يتسم العرض الذي أخرجه كريم دكروب باشتغال الرؤية الإخراجية في لوحاته ومشاهده المختلفة، على أنسنة شخوص الدمى، إلى الحد الذي يجعل المتلقي ينظر إلى «الديك» و «الدجاجة» و «الصيصان» على أنها تمثل عائلة إنسانية مكونة من الزوج والزوجة والأبناء. والسبب في ذلك ليس أن لدى كل من هذه الصيصان اسم آدمي، على غرار ليث وفادي ونبيل وشفيقة، بل لأن القيم الإنسانية بارزة في الحكاية، إذ تفجع العائلة بضياع أحد صغارها، ويحرص أبناؤها على إظهار عواطفهم مع كل حدث درامي بأمزجتهم وهواجسهم الإنسانية. كما أن الحوارات العائلية بعد هرم الديك، تمحورت على ضرورة استخدامه سماعة أذن، كي يحسّن حاسة السمع. تدور رسالة المسرحية حول حقوق الطفل التي طُرحت بأسلوب مبسط لم يخلُ من توظيف التقنيات المسرحية، مثل الدمى بأنواعها، ومسرح خيال الظل، وأسلوب المسرح التفاعلي. فضلاً عن طرح إشكاليات مسلّية ومُثَقّفة ولطيفة تتسم بالطرافة، مثل السؤال الأزلي: «أيهما جاء قبل الآخر: الصوص أم البيضة؟»، ومثلما حدث حين استجاب الديك لإلحاح الدجاجة بأن يرقد فوق البيض. جماليات الأغنية كانت هي الأخرى حاضرة بقوة، وساهمت درامياً في تعميق الأجواء التمهيدية لأحداث حكاية المسرحية، كما ساهمت في إيصال المعلومة إلى الطفل (نقطة ماء في البحر... صارت غيمة في السماء... كما يزهر نيسان)، وفي تعميق الحزن عند ضياع الصوص (صوصي هرب يا دلّي هرب ولم يقل لي). وجاء توظيف السينوغرافيا جمالياً في ظهور القماش بألوانه الزاهية أزياءً في شخوص الديك والدجاجة والصوص، وتارة أخرى مروحة توحي حركتها بحضور قوة الريح في حمل شخصية الغيمة (نفوخة) في بحثها عن الصوص المفقود. وشاركت في مهرجان «مسرح هيا» الذي اختتم أمس ستة عروض عربية وأجنبية. وإضافة إلى «شتّي يا دنيا صيصان» كان الجمهور على موعد مع مسرحية الدمى «التحول» من إيسلندا التي تستند في مضمونها إلى قصص تراثية، وتؤدي الأدوار فيها شخوص دمى العصي المحفورة بالخشب وفق أساليب جمالية متعددة، حيث تغيب الكلمة كلغة اتصال ويحضر الأداء التعبيري. وفي فضاءات مكتظة بالشخوص المتخيَّلة، تدور أحداث المسرحية الإسبانية «مثل القط والكلب»، التي قدمها مسرح تياتر انيمال، بدمج الفنون البصرية والوسائط المتعددة والموسيقى، لإنشاء معادلة جعلت من العالم الخيالي واقعياً بفعل السياقات السريالية التي يندفع الفعل الدرامي من خلالها. أما المسرحية النمسوية «الناي السحري»، فهي عبارة عن عرض أوبرا كلاسيكي لموتسارت، يقدمه مسرح ماريونيت. وتتخذ الحكاية فيها طابعاً رمزياً من خلال الصراع بين ملكة الليل التي تعمل على ترسيخ التخلف وإقصاء المعرفة، وبين ساراسترو، الملك الخيِّر المستنير الذي يعمل وفق العقل والحكمة. كما ضم المهرجان مسرحيتين من الأردن، الأولى تفاعلية قدمتها جنى زين الدين بعنوان «رحلة القمر مع لولو وجنجون»، والثانية «البوم الذي كان يخاف الظلام» التي أُعيد إنتاجها باللغة العربية بالتعاون مع مسرح «يونيكورن» البريطاني، وتتحدث عن البوم «بلوب» الذي تعلّمه والدته الطيران ليكتشف العالم. يقول المخرج كريم دكروب ل «الحياة» إنه شارك في هذه الدورة بعدما قدم عرضاً في الدورة الأولى للمهرجان، لأنهم وجدوا أن هناك طموحاً مشتركاً بإيجاد «مسرح دائم للأطفال». ويوضح أن سبب إعادة تقديم مسرحيته التي قدمها قبل 21 سنة، أن لديهم تقليداً في مسرح «دوار الشمس» يتمثل في «تقديم الأعمال القديمة والجديدة في آن واحد، وعرضها في شكل دائم». بدورها، تشير مديرة «مركز هيا» ديالا الخمرة الى أن إطلاق المركز مواسم مسرحية متواصلة، تشارك فيها عروض محلية وعربية وعالمية، هدفه أن يصبح المسرح على مدار العام في متناول الأطفال. وعن التنوع في العروض، أكدت أن هذا يظهر في ما يُقدَّم من عروض، لجهة التقنيات والأساليب المسرحية، مشيرةً إلى أن العامل الجمالي والإبداعي «لا غنى عنه لتحقيق التواصل مع مخيلة الطفل». وكشفت أنهم يأخذون في الاعتبار الوصول إلى الأطفال الذين لديهم صعوبات في التعلم، والذين يفضّلون مشاهدة العروض في أجواء هادئة. يُذكر أن «مركز هيا الثقافي» يتبع جمعيةً خيرية لا تسعى للربح، ويجمع النشاطات والبرامج الثقافية والفنية والتعليمية والترفيهية في مكان واحد، وتتمثل رؤيته بأن يصبح مركزاً حيوياً للإبداع والاكتشاف والتعلم التجريبي، بما يجعل الثقافة والفن في متناول أكبر عدد ممكن من الأطفال في الأردن.