يعيش العالم العربي في اكثر من قطر حالة من التغيرات السياسية، الجديد فيها عن الانقلابات العسكرية المعهودة، استنادها الى نزول الجماهير الى الشارع ومطالبتها بالتغيير. تواجه هذه التحركات قمع انظمة الاستبداد التي ترفض الاعتراف بضرورة الاصلاحات والتغييرات المطلوبة. كما ان بعض هذه الانتفاضات التي امكن لها اجراء تغيير في قمة السلطة تواجه اليوم محاولات ارتداد او اجهاض لما تحقق. بصرف النظر عن حركات المد والجزر التي تعيشها بعض الاقطار العربية، الا ان واقعاً لم يعد يستطيع احد تجاهله يقوم على ان المنطقة العربية دخلت منعطفاً في حياتها السياسية والتوق الى التغيير في انظمتها السياسية الموروثة، وهي بالتأكيد لن تكون سهلة التحقق، بل وكما يبدو ان اثماناً باهظة ستدفعها الشعوب العربية للوصول الى هذا التغيير. مهما امتدت فترة المخاض هذه، ومهما تعثرت الانتفاضات في هذا القطر او ذاك، الا ان شيئاً مهماً واساسياً قد تحقق، ويمكن البناء عليه مستقبلاً في اكمال المسيرة، انه اسقاط جدار الخوف من الاستبداد القائم والنزول الى الشارع وتحمل كلفة المواجهة المسلحة مع اجهزة الامن. تشترك الانظمة القائمة في قواسم مشتركة، سواء منها ما كان يعتمد النظام السياسي الجمهوري ام الملكي. اول القواسم هو افتقادها الى الشرعية الدستورية، فمعظمها انظمة اتت عبر انقلابات عسكرية او من خلال وراثة للسلطة. لا ترى هذه الانظمة حاجة الى تداول في السلطة ولا الى تغييرات في طبيعة السلطة، فما تجسده قيادات هذه الدول هو الشرعية بعينها، مما يعني ان المطالبة بتداول السلطة يساوي الانقلاب على النظام والكيان ويهدد البلد بحرب اهلية وبدمار لمقومات البلد. هكذا باتت مقولة «إما انا او الحرب الاهلية»، شعاراً عاماً للحاكم وهي فزاعة ليست بلا معنى لشعوب عربية تدرك معنى الحروب الاهلية وما تسببه من دمار شامل للبلد. ولتأبيد هذه السلطة، بنت قيادات هذه الدول انظمة امنية، فحولت الجيوش وقوى الامن والمخابرات الى اجهزة همها الاساسي منع الاعتراض على النظام وسياساته، وقمع اي تحرك، وكتم انفاس الناس، والغاء الحياة السياسية وحرية التعبير، وإالقاء المعارضين في غياهب السجون او في المنافي او ارسالهم الى القبر. زرعت هذه الاجهزة في داخل كل مواطن عربي بوليساً وكلفته بأحصاء انفاس هذا المواطن، وفرضت عليه اجراء رقابة ذاتية كل يوم، بما جعل هذا المواطن يحيا في حالة من العبودية الذاتية، القابلة على شل تفكيره وقتل روح التمرد في داخله، وهي كلها عناصر اساسية لسيادة الاستبداد، بوجهيه القمعي الخارجي والجانب الداخلي المرعب في ذات الانسان. هكذا نشأت مملكة الخوف في كل مكان، وكان تعميمها احد شروط استمرار الاوضاع كما هي، والحاجز المانع لأي تطلع نحو التغيير. منذ اندلاع الانتفاضات، ساد خطاب مشترك من قبل الحكام يعتمد على اثارة الخوف والرعب من اي تغيير قد يحصل ويؤدي الى تبؤ قوى سياسية السلطة مكانهم. انتشرت تعابير المؤامرة الخارجية والفتنة الآتية من الخارج، ورمي بها كل من ينزل الى الشارع، وهي شماعة موروثة منذ أتت هذه القيادات والأنظمة الى السلطة. انها حجج تحمل في جوفها احتقار للإنسان العربي، فتجعل منه خائنا ومرتهنا الى الخارج، وتعبر في الآن نفسه عن رؤية تسمه بالعجز عن قيادة نفسه ونزوله الى ميدان التغيير السلمي. وتكمل المنظومة الشعارية بالتخويف من الحركات الأصولية وسيطرتها على السلطة، وكأنها تخيّر الشعوب العربية بين أهون الشرور، في وقت باتت معروفة تلك العلاقة الجدلية بين هذه الأنظمة والحركات الأصولية وتبادل الخدمات ودعم كل واحد للآخر. ولم تتورع هذه القيادات ايضاً بالتهديد بجر البلاد الى اتون الحروب الاهلية والفتن الطائفية، واللعب على الغرائز العشائرية والقبلية الكامنة في كل قطر عربي. كانت هذه الانظمة ومنظروها من المثقفين والمحللين العاملين في خدمتها تدرك ان طرد الخوف من نفوس الشعب سيعني صعود روح التمرد ورفع مستوى الغضب الى اقصى حدوده، وهو امر صحيح في علم السايسة وفي علم النفس ايضاً. منذ اليوم الاول لنزول الجماهير في تونس، بدا ان شكلاً مختلفاً من التعبير الشعبي بدأ يشق طريقه، ابرز ما فيه تحطيم الحواجز الداخلية في الذات، والتمرد على القمع القابع في العقل قبل ان يكون في الشارع. من احراق المواطن التونسي ابو عزيزة لنفسه، وانفجار الشارع التونسي الذي افضى سريعاً الى هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، بدأت مرحلة جديدة في النضال الشعبي العربي، حيث انتقلت هذه التحركات من تونس الى مصر الى ليبيا واليمن وسورية والبحرين والجزائر... لعل اهم ما تميزت به حركات الشارع هو ذلك التجرؤ غير المعهود على النزول الى الساحات العامة والمطالبة بإسقاط الانظمة ومحاكمتها، والاستعداد لتلقي الرصاص، والبقاء في الساحات وتقبل المواجهات مع الشرطة وبلطجيتها. بل وصلت الأمور الى تحطيم الرموز التي كانت لفترة ما من المقدسات التي لا يحلم المواطن في المس بها فكيف بزوالها. ولعل توظيف العلم والتكنولوجيا الذي قدمته ثورة الاتصالات كان جديداً على الحكام العرب، فلم يقدروا الدور المهم في كسر جدار التعتيم الإعلامي على ما يجري. بات العالم العربي كله قرية صغيرة، ولم يعد بمقدور حاكم ارتكاب جرائمه وإبقاء فعلته في علم المجهول. لقد ساهمت ثورة الاتصال في شكل فعلي في كسر حاجز الخوف، بعد ان ايقن المواطن العربي ان تحركه مسموع ومعروف في كل مكان. تعيش الشعوب العربية اليوم لحظة هذا السقوط لجدار الخوف، والخروج من مملكته الى رحاب الحرية التي باتت الشعار المركزي لكل تحرك. مهما تعثرت الانتفاضات الجارية او انتكست، فان انهيار جدار الخوف سيشكل عاملاً اساسياً في إعادة الاستنهاض واستكمال معركة الحرية والكرامة عبر إطاحة انظمة الاستبداد وقياداتها. * كاتب لبناني