وعى الفلسطينيون، بعد النكبة، هويتهم بأشكال مختلفة، خالطين الواقعي بالذهني والممكن بالمشتهى، متوسلين الشعارات الكبيرة والتنظيم السياسي المسلح، ولم يعثروا على جواب أخير. عاشوا بداية اللجوء، الذي يوحي بإقامة موقته، والاحتلال الذي يؤرق الإقامة الموروثة، والخيبات التي تزعزع الموقت والموروث، إلى أن دخلوا في شتات لا أفق له. حاولت روايتهم، التي استهلها غسان كنفاني بالمأساة وإميل حبيبي بالسخرية السوداء، أن تكون مرآة لهويتهم الوطنية، فجمعت بين السياسة والتاريخ ومحتهما معاً بتوقعات عصية على التحقق. أصدر الناقد الفلسطيني رامي أبو شهاب، حديثاً، كتابه الثاني: «في الممر الأخير سردية الشتات الفلسطيني منظور ما بعد كولونيالي»(المؤسسة العربية للدراسات والنشر2017) مستكملاً كتابه الأول: «الرسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالي في النقد العربي المعاصر»، الذي حظي بالتقدير والثناء. والكتاب الثاني، كما الأول، يتسم بلغة نظرية راقية ويستلهم مفاهيم إدوارد سعيد، ويسائل دلالات الشتات وآفاق المضطهدين، الذين ألقت بهم الأقدار خارج أوطانهم. أضاء الناقد الفروق بين وجوه «الاقتلاع الفلسطيني»، ممايزاً بين المنفى واللجوء، إذ في الأول اختيار أو شبه اختيار، يتمحور حول الأفراد ويستثني الجماعات، في حين أن الثاني تشكيل قسري، كسر بالعنف ظهر الفلسطينيين، وقادهم إلى متواليات من المخيمات، ودفع بهم إلى شتات واسع، هو المرحلة الأكثر قسوة وظلماً في التاريخ الحديث. فما يتشتت يصعب توحيده، وما يطول شتاته يمزج هويته بكثير من الهواء، فلا يقدر الفلسطيني على صنع هويته، ولا يستعيدها كما ورثها عن أبيه. ولعل غموض الأفق الفلسطيني الذي عصف به الشتات بلا رحمة، كما عجز الفلسطينيون المحاصرون عن ترويض اللجوء والتحكم بأحواله، هو ماجعل الشتات الفلسطيني عنيفاً وصعب الأسئلة، لا تحيط به الإرادة الوطنية، حتى لو كانت صادقة، ولا تقبض على تفاصيله الرواية الفلسطينية، مهما حاولت. انصرف أبو شهاب إلى موضوعه مسكوناً برغبة توليد «نظرية في الشتات الفلسطيني»، وتعيينها مرجعاً نقدياً وواجباً وطنياً في آن، مدركاً أن وعي أبعاد الشتات ضرورة لبناء وحماية الهوية الوطنية. اعتمد في اجتهاده على رواية فلسطينية متعددة الأجيال، استهلت بأعمال كنفاني وجبرا، وتوالدت في روايات يحيى يخلف وسحر خليفة وحسن حميد ورشاد أبو شاور، وتكاثرت بعد هزيمة أوسلو في كتابات متنوعة: ليلى الأطرش، جمال ناجي، سامية عيسى، وتيسير خلف، وسوزان أبو الهوى التي تقيم في الولاياتالمتحدة وتكتب بالإنكليزية. ومع أن طموح شهاب له ما يبرّره، فلا مستقبل للفلسطينيين من دون هوية موحّدة، فإن رغبته شائكة المسالك لأكثر من سبب: فالهوية ثقافة، وتأمين الثقافة الهوية يحتاج إلى سلطة مركزية جامعة، هي اليوم معوّقة ومحاصرة. والزمن الفلسطيني، منذ وعد بلفور إلى اليوم، يصنع الفلسطينيين قبل أن يحاولوا صنعه، ونكبتهم الأولى أعقبتها نكبات، بقدر ما أن روايتهم قلقة ومتعددة الأمكنة. ففي زمن اللجوء الأول، الذي أعقب «النكبة»، بدت الأمور للفلسطينيين واضحة إلى حدود الطمأنينة، كان غسان في منفاه قريباً من حيفا ويكتب روايته «عائد إلى حيفا»، وكان جبرا في بغداد ويزور القدس ويوزّع بطله الرومانسي «وليد مسعود» على بغداد في الليل والقدس في النهار. بل إن الاطمئنان جاوز حدوده في زمن الكفاح المسلح، في سبعينات القرن الماضي، فساوى بين الفدائي وبندقيته، واحتفى ببندقية عاقلة صائبة الطلقات. بيد أن الهوية المطمئنة غادرت مواقعها، تباعاً، أربع مرات على الأقل: غادرتها جريحة بعد خروج «المقاومة» من بيروت عام 1982، الذي فتح أبواب هجرة فلسطينية واسعة إلى دول الشمال الأوروبي، وغادرتها كسيرة بعد طرد الفلسطينيين من الكويت بعد الاعتداء العراقي عليها عام 1990، وتدفق مئات الألوف إلى كنداوالأردن وأستراليا ودول الخليج، فإن اشتد قمعهم في بغداد، لاحقاً، رحلوا إلى تشيلي ودول أميركا اللاتينية، وغادرتها محبطة بعد اتفاق أوسلو عام 1993، الذي جعل من الرحيل هاجساً مستمراً، وتكاملت الهجرة المتوالدة بنزوح اللاجئين عن سورية عقب أحزان «الربيع العربي». ولأنّ الرواية كالأحلام، تحتاج إلى إقامة مستقرة، كان على الرواية الفلسطينية المتنقلة أن تعيش اضطرابها، وأن تترجم تجارب شعبها بأشكال مختلفة ومتنوعة: كتب ربعي المدهون عن شتاته وهو مقيم في لندن، وكتب غيره عن الداخل الفلسطيني، وهو مقيم في الأردن، وسجلت سامية عيسى تجربتها وهي موزعة بين بيروت ودول الخليج، ورسمت سوزان أبو الهوى حنينها إلى أجدادها وهي في الولاياتالمتحدة.... حاولت «المذكرات» أن تستدرك ما فات الرواية المشدودة إلى الحاضر وكوارثه المتنقلة، فعادت إلى ماضٍ، لم يعد واضحاً تماماً. كتب أنيس صايغ عن طبريا وشفيق الحوت عن حيفا، وفيصل حوراني عن غزة، بعد أن تحوّل «الماضي»، لدى البعض إلى صناعة أكاديمية لا تعنى بشؤون الذاكرة. تنوعت التجارب «الشتاتية» وتنوعت معها أشكال الكتابة الروائية، وغدا سؤال الهوية غائماً، فهو قريب من الروح وبعيد عن النظر... ولهذا تبدو اليوم فلسطينالمحتلة، الموزعة على «الضفة والقطاع والخط الأخضر»، المرجع الطبيعي الوحيد الذي لا يربك سؤال الهوية إلاّ بقدر، على رغم العسف الإسرائيلي ومحاولات مصادرة اللغة العربية، بعيداً عن شتات يفكّك «الأصل» ويجتاح الذاكرة الثقافية الموروثة إلى تخوم التمزيق. يطرح كتاب أبو شهاب، بسبب طموحه وتعقد موضوعه، أسئلة عدة: كيف يمكن اختصار الشتات، وهو يتضمن التشظي والتفكك والضياع، في مفهوم نظري عنوانه الهوية الفلسطينية؟ وهل «الفكرة» الوطنية، حتى لو كانت صادقة، قادرة على توحيد الماضي والحاضر ودفعهما إلى مستقبل متجانس، يتعلق به الفلسطينيون جميعاً؟ وإذا كانت الهوية تتضمن الثقافة والتجارب المعيشة ووجود دولة تقترح سياسة ثقافية موحّدة، فهل يترجم الراهن الفلسطيني هوية فلسطينية أم هويات؟ وهل على الحديث الوطني أن يدور حول الهوية الفلسطينية، أم حول هويات الفلسطينيين؟ وهل الرواية عمل فني، أم وثيقة موضوعها المباشر شتات الفلسطينيين؟ وإذا كان الشتات قائماً موضوعياً، فما هي سمات الرواية القادرة على سرده في شكل موضوعي، بمعزل عن الرغبات والحنين والأحلام؟ يتميّز الجهد الذي بذله أبو شهاب بأمرين: المزج بين مفاهيم أدبية، ومفاهيم تحيل على السياسة وعلم الاجتماع ومكر التاريخ، الذي يستدعي الشرط الكولونيالي، وما أعقبه. ويقول الأمر الثاني بضرورة تحرير الرواية من القراءة العقيمة المختصرة في شخصيات وموضوع، ويؤكدها علاقة من علاقات المعيش الإنساني، الذي يتضمن العمل والرغبة والكفاح والمقابر الجماعية! انطوى الكتاب على مادة ثقافية تاريخية، تتكئ على مأساة الفلسطيني، وتحاور الفلسطينيين، داعية إلى وعي فلسطيني نظري جديد.