لم تكن روسيا بحاجة إلى التطورات الساخنة والمتسارعة في المنطقة العربية لتبرز حجم التناقضات والارتباك المسيطر داخل اوساطها السياسية، لأن النخب الروسية بدأت، حتى قبل أن تفاجئها «الثورات» العربية ومسار التطور الذي أسفر عن تدخل غربي عسكري جديد في المنطقة، تحبس أنفاسها منذ مطلع العام 2011، الذي يُنتظر أن يكون حاسماً بالنسبة إلى إعادة هندسة مطبخ صناعة القرار ووضع آليات التطور للبلاد لسنوات طويلة مقبلة، باعتبار أن العام الحالي يشهد في نهايته انتخابات نيابية مصيرية سوف تلعب نتائجها دوراً أساسياً في تحديد هوية رئيس البلاد المقبل لولايتين كاملتين على الأرجح تمتد فترتهما إلى 12 سنة. كان المتوقع أن يكون تسارع الأحداث داخلياً، وأن تبدأ النخب الحاكمة في إجراء عمليات الفرز والاصطفاف مع حلول الربيع، لكن الثورات العربية ومسار تطور الأحداث في المنطقة قلبا الموازين كلها، ووجَّها الأنظار جنوباً. انتظر الروس أحداثاً داخلية، فجاءت المفاجأة من الخارج. وقد يكون هذا واحداً من أسباب حالة الارتباك التي سيطرت على المشهد السياسي الروسي منذ انتصار الثورة في تونس، ثم انتقال الحدث إلى مصر، فإلى بلدان عربية أخرى. ولا يقتصر الأمر على وقع المفاجأة وحدها، بل يمتد إلى تنامي الشعور بأن ما يجري في العالم العربي قد يُلحق أضراراً بمصالح لروسيا، و «يفتح على مرحلة جديدة لا نعرف كيف ستتطور الأمور معها، لكن الأكيد أنها لا تصب في مصلحة روسيا»، كما قال مسؤول رفيع في الكرملين بعد مرور أيام قليلة على إطاحة حسني مبارك في مصر. حتى تلك اللحظة، كانت الديبلوماسية الروسية تتصرف انطلاقاً من محاولات المحافظة على «أقل قدر من الخسائر المحتملة»، من دون ان تحاول تلمُّسَ حجم التغيرات المتوقَّعة في المنطقة وتأثيراتها البعيدة المدى. كان الهم الأبرز المسيطر ليس مستقبل المنطقة ومصالحها ومجالات بناء علاقات جديدة معها، بل محاولات الحفاظ على الوضع الحالي، ومشاركة الأنظمة المهددة في التلويح بخطر «الإسلاميين المتشددين القادمين إلى السلطة»، ومخاوف فقدان عقود عسكرية واقتصادية مجزية مع عدد من البلدان، حتى أن خبراء ومسؤولين شرعوا بإحصاء حجم العقود التي يمكن أن تخسرها روسيا في تونس والجزائر ومصر وغيرها من بلدان المنطقة. وحتى عند الحديث عن التأثيرات الداخلية المحتملة، اقتصر الأمر على التحذير من أن «وصول الإسلاميين إلى الحكم في بلدان عربية سيكون له عواقب على منطقة القوقاز»، كما قال أكثر من متحدث أمني وعسكري. بدت روسيا بعيدةً جداً عن إدراك دوافع التحركات الشعبية، حتى أن معلقين لفتوا إلى أن الاتحاد السوفياتي السابق، برغم أنه كان يقيم علاقاته تقليدياً مع الأنظمة، لكنه كان أكثر قدرة على فهم مزاج الشارع العربي، بحكم ارتباطاته مع الأحزاب والحركات الشعبية المختلفة. لكن الأبرز من ذلك، كان غيابَ الحساسية بشكل لافت تجاه انتهاكات حقوق الإنسان، والاكتفاء بإطلاق عبارات «نمطية»، كما وصفها البعض، عن ضرورة «الحوار لحل المشكلات»، من دون أن تصدر إدانة واضحة لاستهداف المدنيين العزل. وحتى عندما استخدمت قوات العقيد معمر القذافي في بداية الحدث الليبي الطائرات لقمع المتظاهرين، كان الموقف الروسي قائماً على انتقاد «التدخل الخارجي». في كل الأحوال، حتى تلك اللحظة، كان الحدث الجاري في المنطقة لم يدخل بعد في الحسابات الداخلية لصنّاع القرار الروس، وهو أمر سرعان ما تبدل مع وصول الأزمة الليبية إلى مجلس الأمن. لم يكن صعباً على المراقب في تلك الأثناء أن يلمس ظهور خطابين متناقضين: واحد ظل يردد العبارات السابقة، وآخَرُ مالَ نحو الموقف الغربي بقوة، ما أسفر عن تمرير القرار 1973 من دون استخدام حق النقض. منذ ذلك الوقت، بدأ ملف التطورات في المنطقة العربية يغدو داخلياً، وفي مقابل الهجوم القوي الذي شنه سياسيون روس على القرار والتحرك الذي تلاه، لجهة «إساءة استخدامه» وأنه لم يحمل تفويضاً بتدخل عسكري، جاءت كلمات الرئيس ديمتري مدفيديف واضحة في الدفاع عن الموقف الروسي في مجلس الأمن. كان الكرملين اتخذ كما يبدو قراره بالانضمام بشكل غير مباشر إلى التحالف الغربي، بينما ظل رئيس الوزراء فلاديمير بوتين لا يخفي استياءه من التطور حول ليبيا. واستهجن مساعد الرئيس الروسي سيرغي بريخودكو، «محاولات إدانة مواقف الذين يحاربون الزعيم الليبي معمر القذافي»، مشيراً إلى أن تصرفات الأخير «لا يمكن قبولها»، بينما انتقد بوتين بقوة العملية العسكرية. وبرغم أن محللين روساً اعتبروا في حينها أن «التباين الظاهر هدفه إفساح المجال أمام القيادة الروسية للمحافظة على هوامش للمناورة في حال تغيرت الأوضاع»، لكن المتتبِّع للسجال الذي انتقل إلى العلن بين مدفيديف وبوتين حول هذا الملف، يدرك فوراً أن المسألة أبعد من ذلك بكثير. كان رئيس الوزراء ندَّد بعبارات قوية بقرار مجلس الأمن، ووصفه بأنه «يشبه الدعوة إلى الحملات الصليبية في العصور الوسطى». ورغم أن بوتين أشار بذلك إلى «رأي شخصي»، باعتبار أن السياسة الخارجية من الأمور التي تدخل في صميم اختصاصات رئيس الدولة، لكنه وجَّهَ انتقادات قاسية لمشاركة روسيا في تمرير القرار. وفي مساء اليوم ذاته، جاء رد مدفيديف على الدرجة نفسها من القوة، عندما قال إنه لا يعتبر القرار غير صحيح، وإنه جاء ردّاً على «التصرفات الوقحة للقيادة الليبية وجرائمها ضد شعبها». وشدَّد مدفيديف على «عدم جواز استخدام ألفاظ تؤدي إلى صدام الحضارات»، في رد مباشر على كلمات بوتين، محذّراً المسؤولين الروس من «التسرع باستخدام عبارات مؤذية وإطلاق توصيفات لا تدخل ضمن صلاحياتهم». كان هذا التطور هو الأبرز داخلياً حيال ما يجري في المنطقة العربية، وتلك المرة الأولى التي يجري فيها السجال بهذه الطريقة المباشرة وبالسرعة التي وقع فيها، إذ جاء ردّ مدفيديف بعد مرور ساعات فقط على حديث بوتين. بات بعدها من الواضح أن السجال انتقل إلى مرحلة جديدة، ويجري بمشاركة كاملة من فريقي الرجلين، إذ قال مسؤول في ديوان الحكومة بعد ذلك، إن كلام بوتين «لم يأت بالصدفة، فالمطلوب تصحيح موقف روسيا من المسألة الليبية»، ولم ينتظر بوتين طويلاً، فهو استغل زيارته إلى صربيا للتذكير بأن «الغرب يتخذ قرارات الحرب بسهولة». كانت ليبيا في هذه اللحظة تحولت إلى ملف داخلي يتعلق بحملات الدعاية المبكرة لانتخابات الهيئة التشريعية نهايةَ العام التي تسبق انتخابات رئاسة حاسمة مقررة في ربيع العام المقبل. واعتبر المحلل السياسي نيكولاي بيلكوفسكي، أن «كل ذلك جزء من الاستعدادات لإعادة انتخاب مدفيديف رئيساً لروسيا». ورأى المحلل أن كلام مدفيديف «موجَّهٌ بالدرجة الأولى إلى الغرب، لإظهار أنه يوجد في روسيا مَن يرفض أن توافق روسيا الدولَ التي تقصف ليبيا، ولهذا يجب أن تؤيد هذه الدول إعادة انتخاب الرئيس مدفيديف». في الوقت ذاته، جاءت الإقالة المفاجئة لسفير روسيا لدى ليبيا فلاديمير تشاموف، لتعكس انتقال السجال إلى درجة ساخنة داخل النخب الروسية. وقال ديبلوماسيون إن تشاموف انتقد موقف مدفيديف وتبنى رأي بوتين، لذلك عوقب بسرعة وبحسم. ولفت خبير تحدث إلى «الحياة»، إلى أن مثال تشاموف ليس نادراً، إذ إن «فريقاً واسعاً من الدبلوماسيين والعسكريين الروس يرون أن الكرملين مرن جداً في التعامل مع الغرب، ولديهم مخاوف جدية، لأن هذا قد يأتي على حساب مصالح روسيا في ملفات حساسة، والمشكلة برأيهم أن المرونة والتنازلات التي تقدَّم في غالب الأحيان تأتي من دون مقابل، أو بالأصح لهدف واحد هو تحقيق إنجاز في الاستحقاق الانتخابي المقبل فقط». ودفعت سخونة السجال داخل أروقة الحكم الخبراءَ إلى محاولة تلمُّس انعكاسات ما يجري في الشارع الروسي، في عملية عكست بجلاء أن النقاش حول الحدث الليبي انتقل ليكون داخلياً وموظَّفاً لخدمة الدعاية الانتخابية. وللتدليل على ذلك، تجب الإشارة إلى أن الحدث العربي عموماً لا يحظى باهتمام كبير داخل الشارع الروسي، حيث يميل الناس للاهتمام أكثر بشؤونهم المعيشية والاقتصادية في العادة، وليس بشؤون السياسة الخارجية. لكن استطلاعاً للرأي أجراه «مركز دراسات الرأي العام»، وهو مؤسسة مرموقة، دل إلى نتائج مفاجئة على هذا الصعيد، فقد أظهر أن 78 في المائة من الروس ضد التدخل الغربي العسكري في ليبيا، مقابل خمسة في المائة فقط أيدوا التدخل. وأظهر الاستطلاع ذاته أن 56 في المئة من الروس يرون ضرورة أن تلزم بلادهم الحياد حيال ليبيا. وبرغم قول مدير المركز ليف غودكوف إنه توقع نتائج كهذه، موضحاً أن الروس أعلنوا في مرات عدة خلال السنوات العشرين الأخيرة رفْضَهم استخدام القوة ضد أي بلد، إلاّ أن محللين لفتوا إلى أن الاستطلاع جاء بعد انتقال السجال بين مدفيديف وبوتين إلى العلن، وأن عدداً كبيراً من وسائل الإعلام ركز في المحصلة على فكرة أن غالبية مواطني روسيا «يدعمون مواقف بوتين». وقال المحلل نيكولاي بتروف، من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن الغالبية الساحقة من الروس توافق بوتين الرأي، وترى أن «الإمبرياليين يتدخلون في شؤون العرب».