من موقع اختباري لمشهدية بصرية جديدة تطل التجارب الأخيرة للفنان التشكيلي السوري أحمد معلاّ، التي يعرضها في غاليري مارك هاشم (ميناء الحصن - بيروت)، وسعى فيها إلى استنطاق الكتابة الحروفية بحثاً عن احتمالات جمالية تقوم على إحداث توليفات ووشائج وعلاقات وتباينات سرعان ما تتحول إلى إيقاعات حركية ذات نغمية باعثة على الحيرة والتأمل. تبدو الحروفيات المقتبسة من قصائد مختارة من الشعر العربي (أبو نواس والمتنبي وجلال الدين الرومي وسواهم) كما لو أنها كُتبت على نسق بياني تصاعدي متتالٍ ومتشابك ومتعالق على صفحات لوحات مملوءة بالخط من سطح واحد، تعترض صميمه أحياناً مقامات كهيئة مربعات إيهامية من اللون ذاته أو من اللون المكمّل. وقد اتسمت هذه الأعمال بطابع شعري متميز فظهرت كمدائح لجانب الشعر والتجريد اللوني معاً. غير أن تقنية معلا تغاير ما يظهر لنا بأنه كتابة تقليدية على مسطح اللوحة، كي تتجه نحو الحفر داخل اللون. اللافت أن الفنان في توجهه الجديد نحو الحروفية، لم يفقد علاقته بالتشخيصية التي كرست أسلوبه الفني على مدى حوالى عقدين من الزمن. هل يمكن في هذا المجال دمج ما لا يندمج في السياق التنظيري للعمل الفني وهل يمكن بالتالي المصالحة بين التشخيص والتشكيل الحروفي في آن واحد؟ يقول الفنان «لماذا ندع الإيديولوجيا تمنعنا من مقاربة حقيقة الأشياء، العالم يسع كل شيء وعلى الفنان أن يقول أفكاره». يواجه أحمد معلاّ (في 42 لوحة غالبيتها من النوع الجدرانيّ وثلاث منحوتات من البرونز)، صعود الموجة الحروفية في التشكيل المعاصر (وكذلك في أسواق الفن العالمية)، بالرد على الأسئلة النظرية بالممارسة العملية في استخدام الحروفية ولكن في توجه خاص، يعتمد على اللعب والاكتشاف والمعالجات التقنية والعلاقات اللونية: من قشط اللون إلى عمليات الطبع والتبصيم والتجريب الغرافيكي. كل ذلك ساهم في فهم الحروف التي ما كان بالإمكان معرفتها وتطويعها، لولا هذه الدراسة العملية الشكلانية لأسرار الخطوط، كي يصل الحرف في نهاية المطاف إلى ما يشبه القوام الإنساني. يأتي ذلك بعيداً من الأصول والقواعد الرياضية للخط، بل بمزاج الفنان المتحرر من أي قيود وضوابط تعيق مساره التشكيلي في تكوين اللوحة. وهو متمكن وغزير ومهني لا يشغفه سوى الانصراف إلى المباحث الجمالية في عالم الفن. تنقسم تجارب احمد معلا إلى قسمين: قسم تتجلى فيه المرسومات الخطية منفردة، وهي لا تبتعد في طربها البصري وجاذبيتها اللونية (لاسيما الأعمال التي تكتسي بالأحمر والأخضر) عن بعض التجارب العربية والإيرانية المعاصرة، وقسم تندمج فيه الحروفية مع التشخيص في مناخ مسرحي، ضمن صيغة توفيقية تعتمد على المصالحة بين قديم الفنان وجديده. المهم أن معلاّ يمضي قدماً في إقناع نفسه قبل الآخرين أن الحروف بمقدورها أن تتحول إلى قامات بوسعها أن تستقيم وتنحني وتتردد وتتجمع وتتفرق، وتنجلي وتتمّوه في استعراض مشهدي باهر. هكذا وجد معلا أن الحروف هي من المرونة بحيث يمكنها أن تحل كتشخيص وكتجريد في آن واحد. ما يجدر قوله عن أحمد معلا أنه يظل متعلقاً بالإنسان مهما فعل ومهما حاول وجرّب وصال وجال في رحاب الموجات الحروفية الصاعدة منها والهابطة، لأنه بكل بساطة وبوعي عميق لا يريد أن يتخلى عن المعادلة الجمالية التي توصل إليها بعد عناء إثر تجربته المستوحاة من مسرح سعد لله ونوس. هذه التجربة التي كرّست ميزات أسلوبه الخاص في مقاربته التعبيرية للجماعات الإنسانية على نحو متميز في طريقة تأليف اللوحة وتوزيع عناصرها، بتلقائية جذلى ومعطاء وجريان شبيه بجريان الجداول في الطبيعة ناهيك عن الروح الشعرية الحالمة ذات المناخ الضبابي المتأتي من الألوان الآحادية (الترابي والرمادي والأبيض على وجه الخصوص). ويبدو أن كل ما في لوحات أحمد معلا هيولي وكأن الأشياء تأتي وترحل مثل المنام.