اعتبرت وسائل الإعلام الأمريكية أن وائل غنيم هو واجهة الثورة المصرية. وكونه أصغر سناً من محمد البرادعي، وأقل جبناً من الإخوان المسلمين، وضليعا في اللغة الإنجليزية، ومتزوجا من أمريكية، وموظفا لدى جوجل، فإن غنيم هو الشخصية المناسبة لبيع قصة الثورة للمشاهد الغربي. ولأنه أدار صفحة فيس بوك التي أنزلت المتظاهرين في البداية إلى ميدان التحرير، تم سجنه لبعض الوقت إلى أن خرج من الأسر في الوقت المناسب ليعبر عن إحباطات الشعب المصري. لكن ينبغي توخي بعض الحذر بشأن ''ثورة الفيس بوك''. فقد أصبحت التعليقات حول الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الاجتماعية في مصر متواصلة لدرجة يسهل معها نسيان أن الفرنسيين تمكنوا من اقتحام سجن الباستيل من دون مساعدة موقع تويتر، وأن البلاشفة استولوا على القصر الشتوي من دون أن يتوقفوا لوضع صور بعضهم بعضا على موقع فيس بوك. لم تكن الثورة المصرية مدفوعة بالإنترنت فقط، ولكن بكثير من القوى نفسها التي أشعلت الثورات على مر العصور: كراهية الحكم المطلق الفاسد وشرطته السرية، وإحباطات الطبقة المتوسطة الناهضة، ويأس الفقراء. هذا يهم، لأن طبقة الفيس بوك المؤلفة من المتظاهرين الشباب المتعلمين والفصحاء الذين أصبحوا الوجه الدولي للثورة هم فئة اجتماعية واحدة فقط في مصر. هذا بلد 44 في المائة من سكانه أميون أو شبه أميين، 40 في المائة منهم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم. إن تدني الأجور وارتفاع أسعار المواد الغذائية وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب تعني أن هناك كثيرا من الناس المحبطين الذين ستسمع أصواتهم الآن في مناخ سياسي أكثر حرية. إن الحكومة تعاني أصلاً من عجز كبير في الميزانية، ولذلك لديها موارد قليلة لإسكات الساخطين. وبسبب جهود نظام حسني مبارك، تتسم مؤسسات المجتمع المدني بالضعف الشديد. فالصحافة مكممة، والقضاء تحت سيطرة النظام إلى حد كبير، والأحزاب السياسية المعارضة لا تكاد توجد. ويعتبر الجيش الذي تولى زمام السلطة في حقبة ما بعد مبارك أقوى هيئة في الدولة. وجماعة الإخوان المسلمين التي يعتبر التزامها بالإسلام أقوى من التزامها بالديمقراطية، هي أكثر القوى الاجتماعية تنظيماً. ومع ذلك في ظل هذه الخلفية يترتب على مصر الآن أن تسمح بتشكيل الأحزاب السياسية وتجري انتخابات برلمانية ورئاسية. وخلافاً للثوريين الأوروبيين الشرقيين في عام 1989 الذين أمكنهم النظر إلى أوروبا الغربية، ليس لدى الديمقراطيين في مصر نماذج إقليمية يسيرون على نهجها. لكن كان هناك كثير من التحولات الديمقراطية في أجزاء أخرى من العالم تعطي فكرة عن التحديات التي تواجهها مصر الآن. إن ثروة المجتمع تهم كثيراً لاستدامة الديمقراطية . فقد وجدت دراسة أن الديمقراطيات نادراً ما تفشل في البلدان التي يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد فيها ستة آلاف دولار أو أكثر، لكنها نادراً ما تتمكن من البقاء عندما يقل دخل الفرد عن 1500 دولار. والناتج المحلي الإجمالي للفرد في مصر حالياً 2800 دولار – وهو مستوى مشابه لمستوى إندونيسيا التي تمكنت من المحافظة على نظام ديمقراطي خلال العقد الماضين، ولو أنه ملطخ بالفساد وعدم التسامح الديني. تركيا، وباكستان، وتايلند، باعتبارها ديمقراطيات لديها جيوش قوية فيها بعض أوجه الشبه بمصر. فقد شهدت جميع هذه البلدان الثلاث سنوات كثيرة تخللت فيها الانقلابات العسكرية الحكم الديمقراطي بصورة منتظمة. ويبدو الآن أن تركيا وتايلند تجاوزتا هذه المرحلة. أما باكستان، لأنها بلد فقير، ما زالت غير محصنة. لكن مصر شهدت عرضاً أكثر دراماتيكية ''لقوة الشعب'' مما تمت مشاهدته في شوارع كراتشي أو إسطنبول، الأمر الذي يمكن أن يجعل الجيش المصري حذراً من الإطاحة بحكومة مدنية. وإذا أوفى الجيش الآن بوعده بإجراء انتخابات نزيهة في مصر سيصبح مزاج القوى الاجتماعية والسياسية في البلد أكثر وضوحاً. وخلال الأعوام ال 30 الماضية تضاعف عدد سكان مصر تقريباً إلى أكثر من 80 مليون نسمة. وهو مجتمع شاب جداً، وهو أيضاً بلد متمدن بصورة متزايدة، وبلد شهد عودة واضحة للدين في الأعوام الأخيرة. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو في الآونة الأخيرة أن 80 في المائة من الناس في مصر يؤيدون فكرة رجم الزناة، وهذا رقم يعزز مخاوف من يشعرون بالقلق من أن مصر الفيس بوك ستُهزم في الانتخابات على يد مصر الأصولية. وتظهر التجارب التي مرت بها باكستان، وتايلند، وتركيا أن الطبقات المتوسطة المتعلمة المتمدنة غالباً ما تكون غير سعيدة بنتيجة الانتخابات الديمقراطية التي تمكن أبناء وطنها الأفقر والأقل تعليماً. ففي تايلند تركت الانتخابات البلد في العام الماضي فريسة صراع مدني يحارب فيه ذوو القمصان الحمراء، الذين ينتمون إلى الريف، ذوي القمصان الصفراء، الأغنى والأكثر تحضراً. وفي تركيا ينظر كثير من أعضاء النخبة العلمانية بريبة عميقة لحزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل الحاكم. ويبدو أن كثيرا من الباكستانيين المتعلمين في حالة يأس دائم من نظامهم السياسي المشلول الذي يتسم بالعنف. وإذا حالف الحظ مصر، فقد يكون مستقبل البلد أشبه بتركيا؛ ديمقراطية فاعلة لديها حزب إسلامي قوي وتنعم باقتصاد مزدهر. وإذا سارت الأمور على نحو سيئ حقاً، فقد يبدو مستقبل مصر مثل باكستان؛ ديمقراطية فقيرة ومشلولة، ممزقة بين الأصوليين والعلمانيين والجيش القوي. لم تحقق مصر حتى الآن الثروة التي حققتها تركيا، لكنها أغنى بكثير من باكستان وأقل ريفية منها. ولعل مستقبلها سيكون وسطاً بين هذه وتلك.