تحكي البردية الفرعونية العتيقة، إحدى روائع الأدب المصري القديم، عن ذلك الفلاح الذي هاجمه اللصوص وسرقوا حماره، وكيف أنه شعر بظلم لم يُرد السكوت عليه فكتب مظلمته إلى الفرعون الذي أعجبته فصاحة الفلاح فانشغل بها عن مرارة شكواه، ولم يهم برفع مظلمته حتى يعيد الفلاح الشكوى ويستزيد الفرعون من بلاغته. ولقد بقيت هذه الرواية، بافتراض صدقها التاريخي، كاشفة عن عقد اجتماعي بالغ الخصوصية بين المصريين وحكامهم نسبه كثيرون إلى ثقافة الخنوع ومفهوم «الأبوية» السياسية، استناداً إلى تلك الأدبيات النظرية الشائعة حول «نمط الإنتاج الآسيوي» أو «المجتمع الهيدروليكي والدولة النهرية» وجميعها تعني فرض الطبيعة الجغرافية لنوع من الحكومات متطرف في مركزيته، ونوع من المجتمعات متطرف في خضوعه. هؤلاء لا يتوقفون سواء عند حدود الماضي الذي شهد الصيغة الفرعونية وجسدها، ولا عند الحاضر الذي شهد استبدادنا الحديث وقصورنا الديموقراطي، بل يمدون تحليلهم إلى أفق مستقبلي حيث استمرأ المصريون الخنوع، وتخاصموا مع التاريخ، لأنهم تخاصموا مع الحرية... أثير التاريخ. غير أن المصريين أثبتوا أنهم فقط مسالمون لا خانعون. فعل الثورة لديهم أمر ممكن ولكنه غير متعجل، ففي التريث حكمة راكمها التاريخ، وفي التسرع رعونة لا تليق بمن كتبوا أول سطور التاريخ. وهنا تكمن علاقة معقدة بين الحضارة وبين السياسة في مصر، لعلها عجيبة أخرى من عجائب التاريخ تكاد تضاهي الإهرامات. لقد ظل فلاح مصر رمزاً إلى سبقه في الحضارة، فالزراعة هي أول نمط إنتاج يحقق الاستقرار، ومدنية مصر الأولى تدين للفلاح بعرقه على الأرض وجهاده ضد تهور النهر العظيم الذي ارتبطت به أغلب عقائد المصريين الدينية وطقوسهم السحرية ونزوعهم إلى البحث عن معنى لما بعد الوجود. هكذا صنع الفلاح المصري، بحسب تعبير فيلسوف المؤرخين الفرنسيين فرناند بروديل، ذلك الدوام الطويل للحضارة المصرية منذ بدء التاريخ المكتوب وحتى بداية العصر الحديث. فلم تكن مصر إذن سوى فلاحة طيلة عصر الحضارة، وعندما ذهب عصر الزراعة فقدت مصر موقعها في الصف الأول بين الدول، لم تبلغ أبداً قامتها الأولى «الفارعة». وفى المقابل ظل الفرعون رمزاً لسبق مصر في السياسة حيث الدولة المركزية الأولى التي يعرفها التاريخ بهذا التماسك وتلك الاستمرارية التي لا تدانيها سوى الصين في الشرق الأقصى. لم يكن الفرعون شيئاً منكوراً في ذاته كما تدعي أدبيات حديثة هائمة، وبأثر رجعي، ترى في حضوره دليلاً على تخلف أو استبداد، فمقام الفرعون في مصر مقام ريادة، وإن لم يكن بالقطع مقام تحرر في تاريخ بكر لم يكن قد عرف للحرية معنى في أي مكان آخر بالأرض الواسعة التي عرفها المصريون آنذاك أو لم يعرفوها. وبين الفرعون والفلاح قامت علاقة في اتجاه واحد دائماً من أعلى إلى أسفل، وكان أقصى ما يفعله الفرعون أن يسمع شكوى الفلاح ولكن من دون إجابة في أغلب الأحوال، حيث خضعت حضارة الفلاح لسياسة الفرعون مالك التدبير ضد الفوضى في الداخل، والأعداء على الحدود. وعلى هذا النحو سار تاريخ مصري مديد يتدفق حيناً ويتعثر أحياناً، حتى اختفى الفرعون نفسه وجاء بعده محتلون فرس وإغريق ورومان لم يكونوا يستمعون حتى إلى الشكوى فلاذ الفلاح بالصمت، وبلع شكواه مع ريقه إيثاراً للسلامة، وندماًَ على عصر الفرعون، ثم جاء العرب فاتحين بدين عزيز، ولغة وثقافة أحسن المصريون من أبناء الفلاح الفصيح استقبالها جميعاً وتفاعلوا معها، وأضافوا في ظلها إلى حضارتهم وإلى الإسلام أبعاداً جديدة. غير أن أبناء الفلاح ظلوا صامتين لا يجأرون بشكوى بعد عصر الفاروق عمر الذي لم ينتصر لهم أحد بعده عندما أمر والي مصر عمر بن العاص رضي الله عنهما بالقصاص من ولده لأنه ظلم أحد أبناء الفلاح الفصيح. هكذا عاشت الحضارة في مصر تئن تحت رحمة السياسة مثل جسد عملاق يلهو به رأس عصفور صغير. وقد زاد من المشكلة تراجع قدرة الفلاح نفسه على صناعة الحضارة فمصر الفلاحة صارت إلى وهن عبر الزمن، تراجعت إلى الصف الثاني بين الدول داخل التاريخ الذي كانت قد كتبت أول سطر فيه. ومنذ القرنين، حيث صار للفلاح الفصيح أحفاد، أخذت مصر تنمو وتنهض... لم تعد فلاحة فقط بل صارت عاملة وعالمة ومبدعة، في المصنع وخلف السلاح، وأمام المطبعة... لقد تنوع أحفاد الفلاح الفصيح وتعددت أشكالهم وإن ظلوا جميعاً يحلمون بميلاد جديد تتصالح فيه الحضارة مع السياسة، فيكون لهم حق الشكوى من دون العقاب، وهذا ما لم يستوعبه الفراعنة الجدد...