بدأ شبابه محبّاً للموسيقى متمنياً لو يعمل في هذا المجال، لكن الفرصة لم تتح له، فاكتفى بالدراسة في كلية الآداب، قسم إعلام، لأنه خالته كانت تعمل في الجامعة ورشحت له هذا القسم بالنظر الى أن أعداد الطلاب به قليلون. كان يعتقد أنه سيعمل صحافياً في التلفزيون، وهكذا عندما بدأ الدراسة في معهد السينما لم يُكملها، والسبب: ذلك الارتباط الإنساني والعاطفي بالدكتور هاني الحلواني الذي تعامل معه كابنه. ولكن عندما توفى حلواني في العام التالي شكل ذلك صدمة وحاجزاً نفسياً قام بينه وبين المعهد، إضافة إلى أنه كان يستهويه أكثر الجانب العملي فلم يجد نفسه في الجانب النظري. شعر وكأن المعهد يأخذ من طاقته أكثر مما يعطيه، فهو أحياناً يرغب في فعل أشياء فيقولون له عكسها، وهو حريص على ألا يفسد نفسه، وألا يخطو للأمام خطوة تجعله يخسر، يفضل الانتظار. إنه محمد حماد مخرج سينمائي مصري شاب، بدأ حياته بأفلام روائية قصيرة أثارت ضجة، لكونها تناقش المسكوت عنه بأسلوب فني، ثم عمل في الإعلانات مع شريف عرفة. «أخضر يابس» هو عمله الروائي الأول الطويل الذي عُرض في عشرات المهرجانات السينمائية حول العالم ونال العديد من الجوائز، ليبدأ عرضه التجاري هذه الأيام في دور العرض السينمائية في دبي بالتزامن مع عروضه القاهرية وإن متأخراً ما حرمه من الترشيح الأول لجوائز أوسكار أفضل فيلم أجنبي. للمناسبة التقينا المخرج الشاب لنناقش تجربته السينمائية فكان الحوار التالي: كيف ومتى أصابك سحر السينما؟ ومتى كان القرار بأن تكون مخرجاً سينمائياً؟ - كنت أحضر برنامج عروض سينمائي وشاهدت فيلماً تسجيلياً للمخرجة عطيات الأبنودي. كان اسمه «راوية» ولم يكن كالأفلام العادية، أحببته، شعرت به غريباً وحلواً وكأن شيئاً جعلني أتعلق به. كان عمري وقتها 22 سنة، وبعد الندوة سألتنا المخرجة: «لو فيه حد محتاج إني أوصله معايا». فركبت معها السيارة، وفي الطريق سألتها: «ليه الفيلم بهذا الشكل؟ وليه الناس حقيقيون الى هذا الحدّ؟» فشرحت لي معنى التسجيلي وأعطتني ثلاثة أفلام لوودي آلان، وبرغمان «برسونا»، وفيلم «أندرجراوند». واتفقنا على ان أشاهد الأفلام ونعود لنتناقش فيها. مع اللقاء الثاني رجعت ومعي حكايات عن أصحابي، عائلتي، أقاربي، جيراني في الشارع. أحسست إن عندي حكايات ممكن أحكيها، كنت أريد أن أصنع فيلماً قصيراً وليس شرطاً أن أخرجه، كان عندي فكرة فيلم بعنوان «الجنيه الخامس» أريد أن أكتبه، قصة أشاهدها طوال الوقت في الأتوبيس المكيف، كنت ألاحظ هذه التركيبة بين البنات والأولاد والسائق، وكنت أتعاطف مع البنت والولد. كان لي صديق مخرج فاقترحت عليه أن نصنعه معًا، فأخرجه هو في شكل جيد جداً، لكنه كان فيلماً مختلفاً عما في خيالي. لقد أخرجه بروحه وشخصيته وهذا حقه. لكني من تلك اللحظة – ولأنني كنت أريد أن أحقق فيلماً آخر - قررت أكون مخرجاً. بين التسجيلي والروائي بداية انجذابك للسينما كان بسبب التسجيلي لكنك على رغم ذلك لم تتجه الى صناعة الفيلم الوثائقي، لماذا؟ - لقد أعجبني التسجيلي لأنه تلقائي، ويلمس المُشاهد مباشرة، نشاهد فيه أناساً حقيقيين وتفاصيل حياتهم، وهذه ميزة كبيرة يمكن توظيفها في الروائي. لدي قصص عن بشر حقيقيين ولكن ليس من المعقول أن أجعلهم يُعيدون تمثيلها مرة ثانية، ولا أرغب في تقديمها بصورة تسجيلية ولا حتى بأي نوع بين النوعين، أريد تقديمها في شكل روائي مستفيداً من مميزاته. أنا مخلص جداً لفكرة أن يكون للفيلم «حدوتة» تحكي عن البطلة أو البطل، لكني لم أفكر في صناعة التسجيلي، فقط صنعت بعض الأفلام الإعلانية التجارية كمصدر دخل لأنه لكي أصنع فيلم «أخضر يابس» كان لابد من ادخار كثير من الأموال حتى أتمكن من استكماله. لماذا تعتبر فيلمك «سنترال» تنفيساً عن الغضب المعتمل في داخلك؟ - لم أكن غاضباً من العمل أبداً، بل كان المقصود إنه كان التنفيس الوحيد عن غضبي من المجتمع، من الزيف، من الخوف ألا أحقق نفسي، من القهر واعتياده، فأخرجت كل الغضب من داخلي وهذا جعلني أكثر هدوءاً في ما بعد، وهذا الفيلم لا أعتبره صادماً للناس، ولكنه كان صادماً لي، خصوصاً بما فيه من ألفاظ قوية، فالصوت العالي والحكي عن هؤلاء البشر بدا كأنه علاج لي. قصة «سنترال» إننا نشاهد الناس تتكلم في التلفون وندخل معهم إلى «الكبائن» ونسمع المكالمات ونرى الشخصيات، لكن بعد «سنترال» أصبحت أميل إلى الصوت الهادئ، وأدركت أن التعبير عن الغضب المكتوم المختبئ تحت الجلد مؤثر أكثر. لكن اللافت أن الصوت العالي في «سنترال» حقق رد فعل عالياً في المشاهدة، وحقق صدى كبيراً للفيلم، لكنك لم تتماد في هذا واتبعت أسلوباً مغايراً لاحقاً في «أحمر باهت» و «أخضر يابس»... شخص آخر كان تمادى في الصوت العالي والألفاظ الجارحة من أجل الجمهور؟ - لأنني لم أكن أفكر في الناس ولا ماذا سيقول الناس. أثناء كتابة «الجنيه الخامس» و «سنترال» لم أفكر في رد فعل الجمهور. الحكاية أنني أحب فكرة فيلم معين، ولدي شيء أريد أن أحكيه. طبعاً جرعة الكلام الفظيع كانت صادمة لي وقتها، لكني لم أعد أراها كذلك لأن الناس الآن تتحدث في شكل أكثر فظاعة، ولم أشغل تفكيري ولم أتوقع رد الفعل سواء المديح أو الهجوم الشديد الذي تعرض له الفيلم. هذه الشخصيات تدهشني قدرتك على أمرين؛ توظيف الأم المقنّعة التي تستهويك في أعمالك والتي تتضح في «أحمر باهت» حيث تظهر في دور الجدة، أما في «أخضر يابس» فتتجسد في شخصية الأخت الكبرى. كيف تمتلك تلك الموهبة في الحكي عن مشاعر النساء وأنت رجل وكأنك تعيش بينهن؟ هل حياتك بين أفراد عائلتك لعبت دوراً؟ - آه طبعاً. أنا عشت في بيت جدتي وهي ست كبيرة. عشت معها وقتاً طويلاً، وهناك أمي، وعندي أربع خالات، ولدي أنا ثلاث أخوات، وخالاتي كل واحدة لديها بنات. في هذا الوسط عشت فترات طويلة وكان والدي مسافراً خارج مصر، وخالي أيضاً الذي كان يسكن في الجوار كان يملك مصنع حلويات وهذا المصنع كل من يعمل فيه بنات، وأنا الوحيد في طفولتي الذي كان مسموحاً له بدخول المصنع والغرفة الداخلية التي يلبسن فيها ثياب العمل في شكل مختلف عما يظهرن به خارج المصنع. وأيضاً والدي عنده محل حلويات أغلب من يعملن فيه بنات. لقد كنت أحبهن جداً وكنت أراهن في شكل حقيقي جداً مختلف عما يظهر – في شكل كاريكاتوري - في الأفلام. فهؤلاء البنات كنّ في لحظات يجلسن وحدهنّ، وكنت أتفرج عليهنّ وأعتقد هذا ما أفادني لأن المخرج في نهاية الأمر، يُراقب الحياه وتفاصيلها، وأنا مراقب محترف وأحب أن أجلس وأتأمل الناس. فمثلاً أحياناً أنزل عند الصباح وأبقى عند محطة الأتوبيس فترة طويلة. وهذا بالنسبة إليّ أمر ممتع جداً، ومن الممكن أن أختار شخصية من الناس وأظل أتتبعها، في الأمر تلصّص لكنه مغر ومفيد جداً للسينمائي. وغواية الأم المقنعة من أين استلهمتها، هل هناك نماذج حقيقية قابلتها؟ - لم أكن أعي ذلك إلا بعد أن تكرّرت كثيراً عندي، ليس فقط في «أحمر باهت» و «أخضر يابس» بل حتى في مشاريع أخرى لازلت أعمل عليها. وأعتقد أنه العقل الباطن لأن الأم المُقنعة يمكن أن ترمز إلى السلطة. وطبعاً الأدب العالمي مليء بنماذج الأم، لكن الأم عندما لا تكون أماً حقيقية بل تقوم بدور الأم هنا سيكون هناك سُلطة تمارسها، ممكن أن تكون سُلطة إيجابية أو سلبية أو محايدة. أحياناً مَنْ يُمارس السلطة يكون أضعف من الأشخاص المتسلط عليهم كما في شخصية أبلة إيمان في «أخضر يابس». فكرة الأم المقنعة عادة يتم استخدامها كرمز للعطاء، لكني أرى أن العطاء قد تكون له أسباب أخرى أحياناً، فهذا العطاء أقوم به لأثبت أنني إنسان جيّد وخيّر، فهو جزء من أنانية ما، وهذه الفكرة مغرية جداً بالنسبة إلي لأن فيها اختباراً لهذا العطاء يجيب عن تساؤل: هل هو صادق وإلى أي درجة؟ لأن عطاء الأم المقنعة مختلف عن عطاء الأم الحقيقية التي عطاؤها أمر غريزي. الأمر الثاني هو زاوية رؤيتي لهذا الشخص القائم بدور الأم المقنّعة وهذا أمر مغرٍ جداً لي لأنني عشت مع جدتي ومع خالاتي وكلهنّ قمن بهذا الدور وكأنهنّ يقلن نحن معك لا تخف. في شخصية الأم المقنّعة مساحة ملتبسة وغامضة وتُتيح الفرصة لصناعة دراما لأن هناك طوال الوقت مشاعر إيجابية وكرهاً وحباً، وكل هذا من دون كلام أو تصريح لكنه يظهر في التفاصيل. طبعاً شخصية الأم المقنّعة إلى جانب انها تكشف العلاقة المعقّدة بين الطرفين خصوصاً لو فكرنا في شخصية ريهام وإيمان في «أخضر يابس» بكل تفاصيلها وما توحي به من كونها أقرب للعلاقات الافتراضيه غير الحقيقية، ولكن من الواضح أيضاً أن جزءاً كبيراً منها إسقاط سياسي على وضع البلد؟ - آه طبعاً.. ليس فقط جزءاً منها بل الجزء الأساسي منها. في المشهد الأخير نرى إطاراً يجمع بين الأختين ولكن كلاً منهما في عالمها؛ الكبرى تدخل غرفتها وتطفئ النور وكأنها تدفن نفسها في القبر. - للتوضيح أن هذا ليس الإطار الأخير في الفيلم.. هو يُعطي انطباع أنه الأخير، لكن اللقطة الأخيرة نراها في ترام يسير بها. الانطباع الأبقى عندي من الفيلم أنه انتهى بإطفاء النور وإظلام عالم هذه الفتاة، خصوصاً أنها المرة الأولى التي تجمع فيها الأختين غرفة واحدة في لقطة واحدة على رغم أننا فعلياً نشعر طوال الفيلم كأن الغرفتين بعيدتان عن بعضهما بعضاً؟ - جمعتهما في تلك اللقطة لأنه كانت هناك شحنة درامية أريد تحقيقها، لكني لم أنهِ الفيلم بهذا المشهد حتى لا أكون كالقاضي الذي يُصدر حكماً على الشخصية، على رغم أن هناك آخرين رأوا النهاية في هذا المشهد، لكني خفت من فعل ذلك لأن فيه حكماً صريحاً على شخصية إيمان التي أحبها بالمناسبة. هل تعرفين ما هي مشكلة إيمان؟ مشكلتها أنها لم تتعاطف مع نفسها منذ البداية. لو أنها تنبهت لنفسها ما كان لكل هذا أن يحصل، هي لم تنتبه إلى أن الوقت يجري بسرعة. لكني لا أقدر على الحكم عليها بمشهد غلق الباب، لأنه مشهد مرعب. أنا أميل إلى أن روتين الدنيا سيأخذها ثانية.