كان التاريخ ولا يزال وسيبقى تعتمل فيه الروح رغم أن العالم العربي كان قد غطس في جموده دهراً طويلاً، وتوقع أن التاريخ قد وقف عنده في محطة الماضي لا يتحرك عنها، أما روحه فقد حطت في أماكن أخرى بعيدة ولدت حضارات حديثة ومعاصرة لا يقوى على مواجهتها المسلمون، لذلك ينبغي عليهم الاستسلام لنظرية المؤامرة التي تقود إلى التطرف والعنف الفكري الناتج من تكفير الآخرين في سبيل الحصول على بعض المعنويات التي تعوض النقص عند المسلمين. تلك كانت مؤامرة الدين والسياسة العربية على شعوبها، والتي أفرزت عهوداً طويلة من التخلف الفكري والعقلي والعلمي والثقافي والاجتماعي للإنسان العربي، وكرست أبشع معاني تحالف السياسة مع الدين الذي كانت نتائجه ثورات فوضوية، وفوضى خلاقة نشهدها اليوم، وعلينا جميعاً أن نتحمل تبعاتها الخطرة ونتائجها السلبية لندفع ثمن سكوتنا لزمن طويل عن الباطل والفساد وانغماس الأكثرية فيه حتى جرى ما يجري لنا في هذه الفترات الصعبة، وما قد ينتج منه من آثار مدمرة في المستقبل لا يعلم مداها إلا الخالق عز وجل. الثورات العربية لها إيجابياتها كما أن لها سلبيات خطيرة تنعكس نتائجها مباشرةً على الشعوب الثائرة التي تنتفض من شدة اليأس ولا تدرك أهداف انتفاضتها الحقيقية. صحيح أن من إيجابيات أهداف هذه الثورات العربية والتظاهرات المستمرة في تونس ومصر وليبيا واليمن والعراق والجزائر والأردن وسورية وغيرها من الدول، يتمثل في وجود قاسم مشترك يجمع بين صوت المواطن العربي الذي ارتفع عالياً ضد الفساد والطغيان والاستبداد وقلب موازين الكون لمصلحة تفشي تلك الأمراض الاجتماعية، لكن الآثار السلبية بدأت تنعكس مباشرة كما توقع لها المؤرخون وبشكل سريع وخطير نتج في واقع الأمر عندما انحازت بعض هذه الثورات عن أهدافها التي انطلقت من أجلها لتتحول إلى صراع اجتماعي قبلي وطائفي ديني ومذهبي وإثني، خصوصاً أن هذه الثورات الشعبية لم تحمل معها أي قيم أو مبادئ فكرية تنادي بها وتغرس بذورها في أرضية الثورة من أجل أن تؤمن بها كل الأجيال القادمة كما حدث في كل الثورات عبر التاريخ، وإنما كشفت في حقيقة الأمر عن واقع الإنسان العربي المتخلف من خلال لغة التعبير والأسلوب والسلوكيات والتصرفات غير الحضارية التي مورست في ميادين التحرير والشوارع العربية، والتي عبرت عن نتاج التخلف السياسي والاجتماعي والعلمي والفكري والثقافي للشعوب العربية البائسة، رغم أنها عكست إيجاباً وبشكل غير مباشر معنى مقولة أن «العقل هو الذي يحكم العالم في النهاية». كثيراً ما نبهت - باعتباري باحثة في مجال التاريخ المعاصر - من خطورة العودة إلى الماضي وتخلفه والتمسك به وبالتراث على حساب حاضرنا ومستقبلنا، وكثيراً ما تمنيت على عقلاء السياسيين في عالمنا العربي ضرورة العمل على تجديد روح الشعوب العربية قبل فوات الأوان من خلال تهيئة الأرضية المناسبة للقضاء على كل الأمراض الاجتماعية، وإصلاح مؤسسات كل دولة عربية لكي يتسنى في ما بعد إصلاح وتجديد روح النظام السياسي العربي. من يريد عزيزي القارئ أن يتعرف على أحد أهم أسباب الثورات الشعبية العربية المعاصرة فلينظر بإمعان إلى دور المؤسسة العربية الوحيدة التي تجمعنا تحت مظلتها باسم جامعة الدول العربية، تلك الجامعة التي انطلقت بمبادرة ودعم بريطاني من السيد أنتوني إيدن عقب الخطاب الذي ألقاه في مجلس العموم البريطاني عام 1941 وجدد فيه المبادرة نحو أن يسير العرب في اتجاه تحقيق الوحدة العربية. هذه الجامعة التي صبر على وجودها كل الشعوب العربية بمفكريها ومثقفيها وعلمائها كونها - كما هو مفترض - معبرة عن حركة الشعوب العربية ونضالها القومي، لم تحقق عبر تاريخها الأهداف التي انطلقت من أجلها وكانت تصمت دهراً لتعود في كل مرة فتنطق كفراً وعجزاً، حتى وصل بها الحال إلى مستوى عدم القدرة على التدخل السريع والمباشر فيما يجري الآن من نتائج خطيرة في كل البلاد العربية والمنطقة بشكل عام. ولهذا فمن الطبيعي جداً أن يؤول مصيرها نحو حلها كمصير عصبة الأمم، عندما تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى، وواجهت منذ البداية نقطة ضعف رئيسية أثرت في سمعتها الدولية ومكانتها ومستقبلها، خصوصاً أثناء مجريات الحرب العالمية الثانية فكان لا بد لها من مواجهة مصيرها الفاشل فحُلَّت لتقوم على أنقاضها منظمة الأممالمتحدة. لذلك لا بد عند التفكير مستقبلاً في تأسيس أية منظمة أو هيئة أو مؤسسة وحدوية عربية أن يراعى فيها توحيد الجهود الفكرية للمؤرخين والمفكرين والمثقفين العرب كافة لوضع لبنة سليمة وصحيحة تكون أساساً لقيام مشروع عربي نهضوي جديد. مجرى التاريخ هو مجرى عقلاني واقعي يؤكد أن ضحايا هذه الثورات العربية المعاصرة سوف يولد من معاناتهم وألمهم فكرٌ جديدٌ لنظام سياسي عربي، قد يطول بنا الزمن حتى نراه ونعيشه واقعاً، أو تحيا أجيالنا القادمة في ظله. فلا شيء يذهب عبثاً في التاريخ، كل شيء له ضرورته سواء كانت عوامل إيجابية أو أخرى سلبية. ولكي نتذوق الشهد لا بد من الشعور بوخز إبر النحل، ومن يحتاج إلى التقدم الحضاري لا بد أن يدفع الثمن من آلامه ودمائه. المهم أن نحسن الإجادة من الآن فصاعداً في تفسير حركة التاريخ العربي المعاصر في حاضره ومستقبله، ولا نعود إلى ماضيه إلا من أجل الاستفادة من الدروس والعِبر فقط، ولندرك أن روح التاريخ هي في قوة الحرية التي تقودنا وتنتهي بنا نحو التقدم كما يفسرها ذلك المؤرخ الفيلسوف العبقري هيغل. التاريخ عزيزي القارئ لا يتوقف حتى وإن توهم البعض عكس ذلك، فهو يتجدد داخلياً في روحه المتطلعة دائماً إلى التقدم والحركة نحو الأمام وبشكل سريع من دون راحة. لذلك فإن حساب عامل الزمن وبدقة في ما يحدث حولنا الآن مهم جداً بالنسبة إلى الأنظمة السياسية العربية وشعوبها، فمن يريد منهم أن ينقذ مصيره ووجوده قد يفقده، ومن يريد منهم أن يضحي بنفسه من أجل سيادته فهو الذي يستحق الحياة والحرية حاضرها ومستقبلها شرط أن يستطيع الاستيلاء على حريته فيحافظ على روحها المتجددة في التاريخ، والتي تؤسس وتبنى فيه على حقيقة أن الإنسان هو إنسانٌ حر من حيث إنه كائن إنساني بشري. * أكاديمية سعودية. [email protected]