إنها مسألة أيام أو أسابيع، ولن تستمر شهوراً بالتأكيد. هذا ما أكده في اليومين الماضيين المسؤولون الفرنسيون المتفائلون، على ما يبدو، بأن الأزمة الليبية لن تستمر طويلاً. ومرد هذا التفاؤل، بلا شك، يقين الفرنسيين بالنتائج التي حققتها طائرات التحالف الغربي وصواريخه البعيدة المدى التي تمكّنت خلال أقل من أسبوع من تدمير البنية الأساسية لقوات العقيد معمر القذافي، بما في ذلك سلاحا الطيران والدبابات اللذان منحا قواته تفوقاً واضحاً على خصومه ودفعهم إلى الانكفاء شرقاً، بعدما كانوا قد حققوا تقدماً كبيراً على الأرض عندما زحفوا غرباً ووصلوا إلى مشارف سرت، مسقط رأس القذافي. وقد مثّل سقوط مدينة أجدابيا مجدداً في يد الثوار، أمس، ترجمة واضحة لسبب التفاؤل الفرنسي. فقوات القذافي في هذه المدينة الاستراتيجية التي تُعتبر «بوابة» الشرق، لم تتمكن من الصمود لأكثر من أسبوع تحت وطأة قصف لا هوادة فيه من الطائرات البريطانية والفرنسية والأميركية التي حوّلت أحدث دبابات القوات المسلحة الليبية إلى مجرد خردة متناثرة بين رمال الصحراء. ومع سقوط أجدابيا سينتقل بالتأكيد تركيز الثوار في اتجاه الغرب مجدداً لإكمال المهمة التي كانوا قد بدأوها في زحفهم صوب طرابلس، قبل أن توقفهم قوات القذافي وتردهم على أعقابهم. وعلى رغم ما نُقل أمس عن أحد قادة الثوار، محمود جبريل، في شأن انهم - بعدما استعادوا أجدابيا - لم يعودوا في حاجة إلى دعم خارجي لإكمال عملية تحرير المدن الليبية من قبضة القذافي، إلا أن الأرجح أن الثوار في وضعهم العسكري الحالي سيكونون مضطرين إلى الاستعانة مجدداً بالغطاء الجوي الغربي، كما حصل في أجدابيا، إذا أرادوا حقاً التقدم غرباً، عبر البريقة وراس لانوف في اتجاه سرت، في طريقهم لفك الحصار عن مصراتة، ثالث أكبر المدن الليبية. قد تكون هذه المهمة سهلة بالفعل، في ظل السيطرة الغربية المطلقة على الأجواء الليبية. وعلى الأرجح، سيتكرر إذذاك «سيناريو أجدابيا» في كل منطقة سيحاول مؤيدو القذافي إبداء مقاومة فيها. وقد كانت الولاياتالمتحدة واضحة، في هذا الإطار، عندما دعت في الأيام الماضية العسكريين الليبيين إلى عصيان أوامر قادتهم والفرار من مواقعهم التي ستتعرض للقصف، علماً أنها كانت قد وجّهت دعوة مماثلة إلى السياسيين المحيطين بالقذافي للتخلي عنه قبل أن يسقط نظامه وتتم إحالتهم على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (التي ستكون بلا شك أكثر رحمة عليهم من القصاص الممكن أن يُنزله الثوار فيهم). وخلال الأيام المقبلة التي ستترافق مع تقدم الثوار غرباً سيظهر بالفعل ما إذا كان تفاؤل الفرنسيين في محله، خصوصاً إذا ما بدأ جنود القذافي ومؤيدوه السياسيون في التخلي عنه «قبل غرق السفينة»، كما يبدو الاعتقاد الرائج بين السياسيين الغربيين. لكن الأمر ربما لن يكون بالبساطة، أو السهولة، التي يتمناها الغربيون ومعهم بقية الثوار. فالعقيد القذافي، كما ظهر في خطبه الأخيرة، بدأ يُعد لمعركة يعتبر أنها ستكون بعيدة المدى، مراهناً على أن «نفس» الغربيين سيكون قصيراً، وأن رأيهم العام لن يتحمّل تورطهم - بعد العراق وأفغانستان - في حرب جديدة أهلية تجرى هذه المرة على ضفة المتوسط الجنوبية. ويعرف القذافي، بلا شك، أن كل ما عليه أنه يفعله كي يتبجح في أنه «هزم التحالف الصليبي» ضده هو أن يبقى حيّاً في أحد معاقله في غرب البلاد، بما في ذلك العاصمة طرابلس، حيث يسكن قرابة ثلاثة أرباع عدد سكان ليبيا. ويكون القذافي بهذه الطريقة قد كرر ما فعله زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن عندما هُزم في معركة تورا بورا لكنه عاود الظهور بمظهر «المنتصر» ضد الأميركيين بعدما فشل هؤلاء في قتله ثم غرقوا في «مستنقعهم» العراقي الذي حفروه بأنفسهم. لكن نجاح القذافي في مثل هذه المهمة سيكون مرتبطاً بمدى غرق ليبيا في مستنقع «حرب أهلية»، وهو الأمر الذي يبدو أن البلاد تتجه إليه بعدما فتح الزعيم الليبي مخازن الأسلحة وبدأ يوزّعها على المواطنين. غير أن توزيع هذا السلاح يحمل في طيّاته مجازفة كبيرة قد تُنقذ النظام بالفعل لكنها ربما تُعجّل أيضاً في إسقاطه. لكن الظاهر أن القسم الأكبر من قبائل الغرب الليبي الذي يوزّع النظام الأسلحة على أبنائه بهدف صد هجمات الثوار «القادمين من الشرق»، ما زال حتى الآن على ولائه لحكم العقيد، أو على الأقل لم ينتقل بعد إلى صف مناوئيه. ومن شأن وقوف قبائل الغرب في صف النظام أو انفضاضها عنه أن يُحدد، بلا شك، وجهة «معركة إسقاط» القذافي. وقد يكون من السهل القول، كما يعتقد بعض الغربيين، إن ما على القبائل سوى التخلّي عن القذافي ليسقط حكمه، لكن حقيقة الأمر أن العلاقة هي أكبر من أن تكون مرتبطة بشخص القذافي كي يتم التخلي عنه أو التمسك به، بل هي أكثر تعقيداً من ذلك وترتبط أحياناً بعهود ومواثيق بين القبائل وليس الأشخاص. فقبيلة القذاذفة التي ينتمي القذافي نفسه إلى أحد فروعها (الكحوص) مرتبطة بتحالفات قد لا يكون سهلاً فكها مع عدد من أبرز القبائل الليبية مثل الورفلة التي تعد قرابة مليون نسمة وتُعتبر أكبر قبائل البلاد وتنتشر في طول ليبيا وعرضها وإن كان معقلها الأساسي في بني وليد (جنوب شرقي طرابلس). ومن بين أركان نظام القذافي «الورفليين» صالح إبراهيم أحد أهم قادة «اللجان الثورية» ومعتوق معتوق أحد أهم المسؤولين الأمنيين. كما ترتبط القذاذفة بتحالفات وثيقة مع المقارحة التي تُعتبر من أهم قبائل الجنوب ومعقلها الأساسي سبها «الخزان البشري» للنظام. ويُعتبر عبدالله السنوسي، عديل القذافي والمسؤول عن الاستخبارات العسكرية، أحد أبرز وجوه «المقارحة» في النظام. وإضافة إلى تحالف القذاذفة مع هاتين القبيلتين الأساسيتين، ترتبط قبيلة القذافي بتحالفات مماثلة مع عدد كبير آخر من قبائل الغرب، مثل قبيلة ترهونة الكبيرة في جنوبطرابلس والتي يُعتبر أبناؤها من المقاتلين الأشداء، كما تعلّم الإيطاليون بدم جنودهم أيام احتلالهم لليبيا. ومن بين هذه القبائل أيضاً قبيلة أولاد سليمان في سرت ووسط ليبيا عموماً. وكل هذه التحالفات القبلية المعقّدة تجعل من الضروري إيجاد «ثغرة» ما يمكن من خلالها النفاد لإقناعها بفك تحالفها مع القذافي شخصياً وقبيلته عموماً كي يتمكّن الثوار، ومعهم حلفاؤهم في الدول الغربية، من تحقيق هدفهم في إسقاط النظام. وقد يكون «مفتاح» هذه الثغرة تقديم تطمينات لقبائل الغرب بأن قبائل الشرق - التي تهيمن حالياً على قيادات الثوار - ليست في وارد القضاء التي الامتيازات التي يتمتع بها أبناؤها حالياً في أجهزة الدولة ومؤسساتها. كما قد يكون من الضروري أيضاً إقناعها بأن التخلّي عن القذافي لا يعني المس بشرف القبيلة وسمعتها. ومن هذا المنطلق، قد يبدو منطقياً أن تسعى هذه القبائل إلى إيجاد مخرج يحفظ ماء الوجه لقبيلة القذافي، كي لا يبدو سقوط الزعيم الليبي بمثابة هزيمة للقذاذفة ولا أنه جاء نتيجة إخلال من القبائل بعهود ومواثيق قطعتها أمام قبائل أخرى.