«ثورة 25 يناير» المُلهِمة في مصر، التي أطاحت رأس النظام في 18 يوماً، ظل شررُها ينتقل يوماً بعد يوم إلى كل مؤسسة سكنها الفساد، ليتلقف العاملون فيها شعلةَ التطهير فيطيحوا رأس الفساد أيضاً في هذه المؤسسة أو تلك. في مصر فقط، تكون الثوراتُ الكبرى فنًّاً وإلهاماً لا ينضب. فها هي العرائسُ (الماريونيت) تستلهم روح يناير (كانون الثاني) لتُشعل ثورتها الخاصة، فتتمرد على الإنسان الذي يقفُ وراء الستار محرّكاً خيوطَها، وهو يتدثّر بالأسود لئلا يبين، ولا يلمحه الحضور، فيما يربط رأسَ العروسة وكتفيها وذراعيها وخصرها وركبتيها وحتى قدميها، بخيوط تنتهي إلى ثقوبها الخاصة في خشبة يقبض عليها لاعب العرائس، ليتحكم في حركتها وسكونها وابتسامها وعبوسها. تأملتِ العرائسُ أمرها فاكتشفت أن جمهورها من الأطفال والكبار يأتون من أجل العرائس فقط، لا من أجل أولئك الذين يتوارون في سوادهم تحت حُجُب الظلام لكي يحركوا أوصالها. فقررتِ العرائسُ التخلّص من أولئك الزائدين عن الحاجة، واحتلال المسرح وحدهم، ليكتبوا تاريخاً جديداً للعرائس من دون لاعبين من البشر، خصوصاً أولئك الذين يمحون إرادتها ويعذبونها بالتمرين الدائم. كذلك المدربة «حُديّ بْدَيّ» ترهق عرائسها بتعلّم جدول الضرب والحساب، بينما ترى العرائس أنها ليست بحاجة إلى تعلم تلك الأكاديميات السخيفة، لأنها تمتلك ما هو أهم وأرقى: الخيال. «إحنا خيال النور والحلم/ إحنا الفن وأصل العلم/ إحنا قرود وأسود وزراف/ ونجوم قايدة في ليل شفاف/ إحنا خشب وحديد وحرير/ لكن لمّا نعوز بنطير/ وإن عزنا نبطّل تفكير/ راح نقفل كل الأبواب/ إحنا الفن خيال وحقيقة/ فرسان قشّ قلوبها جريئة/ وعيونها طيبة وبريئة/ حتى لو شفتوا الأنياب.» تحاول مدرّبة العرائس «حُدي بْدي اللي مفيش زيها زي»، التي أدّت دورها ببراعة نشوى إسماعيل، أن تستميل العرائس الماريونيت والقفاز والموبيت والعصا وخيال الظل، لتقنعهم بفضّ الثورة واستبقائها إلى جوارهم. فهي تحبهم ولا تتصور حياتها من دون عرائسها، التي سهرت على الورق تصممها، وسهرت على الخشب والإسفنج والكارينة والخرز والقماش تصنع أجسادها، وسهرت مع خيالها تؤلف لها الحكايا المشوقة التي تُبهر الأطفال. لكن شعب العرائس يرفض بحسم، ويرفع شعاراً واحداً لا يتغيّر: «ارحلي». «راح تستقيل/ ولا حيفضل عندنا/ إنسان دخيل/ هاتستقيل/ محدش يتحكم فينا/ حنكمل إحنا لوحدينا/ مين كان يا عرايس يتصور/ إن المسرح يصبح لينا/ لا مهندس يرسم ويهندس/ ولا لاعب أُزعة يتفلفس/ وإحنا اللي هانخرج وندرّس/ ولا مخرد راح يشخط فينا.» تحاول أن تلتفّ على إرادة الثوار العرائس بعمل استفتاء في ما بينهم لتستطلع رأي الأغلبية. فتكتب ورقتين، على إحداهما: «لا تستقيل»، وعلى الأخرى: أيضاً «لا تستقيل»، وفي هذا إشارة مُرّة لما يفعله الزعماءُ من تزوير لإرادة الشعوب في الانتخابات. وتطلب من العرائس أن يختاروا ورقةً من الورقتين، مطمئنةً إلى فوز خطّتها الداهية. لكن العروسة «الحمار» تختار ورقة، وتبتلعها بغتةً. ثم يقول الحمار: «لا بأس، سنقرأ الورقة الأخرى، فنعرف المكتوب في الورقة التي ابتلعتُها». هنا ينجح الشعبُ الذكي في الانتصار على مكر السلطان. وحين تعترف بأنها حاولت تزوير الاستفتاء، يقدمونها للمحاكمة، بعد أن يربطوا أطرافها بالخيوط لتذوق ما يذوقون. ويختارون للحكم عليها «قاضي الحواديت العجيب، أبو ذقن زي الحليب»، الذي يسكن قصره البعيد فوق السُّحب الملونة. وبالفعل يركبون المناطيد ويتوجهون إليه. فيحاول القاضي الطيب أن يعطيها فرصة أخرى، بعدما أشفق عليها، بأن تدخل مع العرائس في مسابقة، وللمنتصر يكون القرار. تنهزم أمامهم في مسابقة الرقص، والأكروبات والحركات البهلوانية العجيبة. فيقرر القاضي أن يترفّق «بآدميتها» الضعيفة قليلة الإمكانات، ويعقد مسابقةً في أول مهنة مارسها بنو آدم على الأرض: الزراعة. وكان لابد أن تنتصر عليهم في هذه المسابقة المضمونة، لأنها إنسانٌ وهم عرائس. لكن المفاجأة أنهم زرعوا آلاف الزهور، بينما لم تنجح هي في زراعة زهرة واحدة على مدى شهرين من الكد والتعب! وهنا فقط، تنتبه إلى الحقيقة الصادمة. العرائس يمتلكون الخيال الذي يصنع كل ما لا يقدر الإنسانُ أن يفعله وهو مكبّل تحت سقف المنطق والواقع والممكن وغير الممكن والعلم والحسابات وجدول الضرب «اللعين». ففي عالم الحواديت يكون الخيالُ اللامحدود هو البطل الذي لا يُقهر. «في دنيا الحواديت/ ممكن بالقمحاية/ عدساية بزلايّة/ نزرع أكبر غيط./ في دنيا الحواديت/ ممكن نعمل مدنة/ عالية وسط بلادنا/ من عود الكبريت./ في دنيا الحواديت/ ممكن نقطة بسيطة/ تبقى بُحيرة غويطة/ وتبقى بحر محيط/ في دنيا الحواديت.» تعترف «حُدي بدي» بفقر إمكاناتها، وتقرّ لهم بالحرية التي ينشدونها. لكن إحدى العرائس الذكية تخطب في شعبها وتخبرهم أنه لولا الإنسان ما كانوا، فهو الذي أعمل خياله ليرسم تصميماتهم، ثم أعمل مواهبه ليؤلف لهم الحواديت والموسيقى والأغاني، وأعمل مهاراته ليحرك أوصالهم، وسط الأضواء والديكور والحيل المسرحية والألوان الجذابة التي كلها من صنع الإنسان وخياله الثري. هنا تصفحُ العرائس عن المدربة التي تعلّمت الدرس جيدًا، ليفتح الجميعُ صفحة جديدة قوامها الحب وحده، وتقدير الإمكانات واحترام الآخر. «ثورة العرائس» تأليف الشاعر سمير عبد الباقي وألحان طارق مهران وديكور وعرائس حسين العزبي والراحلة نجلاء رأفت، وإخراج هاني البنا. والطريف أن الشاعر سمير عبد الباقي كان كتب هذه المسرحية قبل عشرين عاماً، ولم يُتح لها أن ترى النور إلا الآن، بعد ثورة البشر. فكانت بمثابة «العلامة» الثورية الشعبية المبكرة. وهنا تكريس لفكرة أن الفنّ دائمًا سابقٌ للسياسة، ومُلهمٌ لها.