لم يسجل التاريخ منذ أكثر من خمسين عاماً، أن جماعة «الإخوان المسلمين» راجعت أفكارها سوى مرة واحدة، عندما أصدر مرشدها الثاني حسن الهضيبي أوراقاً في النقد الذاتي من داخل السجن بعنوان «دعاة لا قضاة»، طبعت في ما بعد في كتاب لم تكن الجماعة حريصة على توزيعه أو قراءته داخل صفوفها أو بين منتسبيها، كما أنها لم تعمم الأفكار التي وردت فيه على قواعدها ضمن مناهج تشكل الوعي الإخواني. وهناك من شكَّك في هذه المراجعة مِن خلال قولهم: إن الهضيبي هو مَن أقرَّ كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» وأمر بطبعه بعد مراجعة ما ورد فيه، وبالتالي الحكم بتسمية هذا السياق بأنه مراجعة غير دقيق في ظل وجود «النظام الخاص» في عهدي حسن البنا وحسن الهضيبي، والذي قام بحله لأسباب عدة؛ منها استقلاليته التي كانت تمقتها القيادة سواء في عهد مؤسسها الأول أو خليفته. كُتب «دعاة لا قضاة» داخل الزنازين التي امتلأت بالأتباع والأعضاء عام 1965، وظهر إلى النور عام 1977، لكنه ظل بعيداً من دائرة الاشتباك، كما ظلت بحوثه حبراً على ورق، وثبت في ذلك الوقت أن أفكار الكتاب لم تؤثر في التيار العام الذي تبنى العنف داخل تنظيم الإخوان، مثل شكري مصطفى أمير «جماعة المسلمين»، التي عرفت إعلامياً باسم «التكفير والهجرة» وغيره من أئمة «التكفير والتفجير»، الذين خرجوا من رحم الفكرة. هذه الولادة لم تكن قديمة ولا يمكن التبرؤ من تأثيرها، والواقع يؤكد تجددها. من نتاج ذلك ظهور حركات العنف من داخل تنظيم الإخوان، مثل حركة «سواعد مصر- حسم»، و»لواء الثورة»، بأفكار شرعت العنف في بحوث أطلق عليها «فقه المقاومة الشعبية»، والتي أجازت استخدام العنف وأباحت القتل بدعوى الدفاع عن النفس ضد من أسمتهم «الطغاة». جماعة الإخوان المسلمين لا تؤمن بفلسفة المراجعة، بل ترى العبقرية في مؤسسها الأول وما طرح من أفكار وفي المرشدين الذين خلفوه، وأطلقت في ذلك عبارات منها، «الملهم الموهوب» و «إمام الدعاة» و «الأستاذ المرشد»، وكلها قلَّلت من مساحة نقد الأفكار. التقديس الذي ميَّز العلاقة بين المؤسس الأول وأتباعه تكرّر مع سيد قطب، فحسن البنا أسس «النظام الخاص» (الجناح العسكري) في أواخر ثلاثينات القرن الماضي ومات ولم يُصدر قراراً بحله، على رغم انتقاده لبعض سلوكياته، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من غياب فلسفة المراجعة ووجود خطابين يتم تسويق كل منهما وفق الحاجة. لا تمكن مراجعة الأفكار من دون الاقتراب من المعين الأساسي وخزَّان هذه الأفكار ممثلاً في مناهج التربية التي أعلت من قيمة التنظيم على حساب الدعوة وصنَّفت المجتمع فسطاطين؛ أحدهما ينتمي إلى التنظيم وهؤلاء من المؤمنين حقاً، وآخر ينتمي إلى الطائفة الأخرى وتسير عليها أحكام تصل إلى التكفير والقتل. ولعل حوادث الاغتيالات التي قامت بها الجماعة من خلال «النظام الخاص» أكدت هذه النظرية المختبئة داخل مفاهيم «الإخوان»، وربما دفعت الجماعة إلى ممارسة القتل حتى ضد أعضائها مثل السيد فايز الذي قتل في تشرين الثاني (نوفمبر) 1953، بعد توارد أنباء عن نية مرشد الجماعة وقتها توكيله أمر الجناح العسكري. مراجعات الإخوان باتت مشوهة ومبتورة ولا تعبر عن الحقيقة، لسببين رئيسين؛ أولهما، أنها لم تخرج عن قيادة التنظيم كما حدث في «الجماعة الإسلامية»، فقد رعى مجلس شورى الأخيرة (أعلى سلطة في التنظيم) هذه المراجعات وأصّلها عام 1997 حتى خرجت إلى النور وفُعّلت وساعدت في زحزحة أفكار الشباب عن العنف الذي آمنوا به، كما أنها كتبت داخل السجن، وقيادات «الإخوان» لم تجمعهم زنزانة واحدة حتى يصلوا إلى ما وصل إليه الآخرون، بل انقسموا وجزء كبير منهم طليق خارج البلاد يتم استخدامه واستغلاله في معركة الضغط على النظام السياسي، فضلاً عن تنظيراته داخل الغرف المكيفة بخلاف أتباع الجماعة الذين كانوا يسكنون الكهوف والمغاور. فهؤلاء في قرارة أنفسهم كانوا يبحثون عن مأوى، بينما «الإخوان» في الخارج يستمتعون بالخيرات التي أُغدقت عليهم ويتلذذون بالأدوار التي تم استغلالهم فيها. والأخطر من هذا وذاك أن خلافات الجماعة الداخلية بين قياداتها التي قررت استخدام العنف وعملت تحت لافتتها وبمبادئ مرشدها وبين القيادات التاريخية عميق، فلا تستطيع التبرؤ من قيادات العنف ولا التبرؤ من أفكارها التي استقتها من معلمها الأول والمناهج التربوية على مدار عمر التنظيم. وهو ما يرجّح لدينا صعوبة المراجعة بالطريقة نفسها التي تمت مع «الجماعة الإسلامية» أو حتى «جماعة الجهاد»، ولا على شاكلة مرشدها الثاني حسن الهضيبي، مع الملاحظات التي تُخرجها من سياق وصفها «مراجعة». جماعة «الإخوان المسلمين» أمام مأزق كبير يتعلق بعودة الروح إلى كيان التنظيم في حال نيّتها مراجعة الأفكار ثم الوثوب إلى فكرة المراجعة في ما بعد. والشواهد تؤكد غياب هذه الأفكار عن حساباتها، وبالتالي لا قيمة حقيقية تذكر بخصوص بقاء التنظيم أو حله، غير أننا نؤكد عدم جدوى أي محاولات للمراجعة من دون التنظيم؛ فلا بد لها أن تسبق حل الجماعة التي لا معنى لوجودها من دون مراجعة أفكارها؛ وإن كنتُ أعتقد أنها لم تعد قادرة على ذلك، فشيخوختها تحول دون ذلك وتدفعها إلى الاستسلام لقضاء الله وقدره النافذ بعدما قارَبَ عمرُها المئة عام. كاتب مصري