من يتذكّر «النموذج الياباني»، و«نموذج النمور الآسيوية»، بل، للأكبر عمراً، «النموذج الفيتنامي»...؟ من يتذكر احتفاءنا ب»نجاحاتهم»؛ تارة لتوفيق الأول والثاني بين «التفوّق الاقتصادي» و»المحافظة على التقاليد»، وتارة اخرى لنجاح الثالث في طرد الامبريالية الاميركية؟ نماذج و«نماذج» مرّت على صفحاتنا وانكبّت عليها اقلامنا؛ من اجل افهام انفسنا شيئا من تجارب غير تجاربنا، ومن بلدان الشرق... الى حد اختلاط «النماذج» ببعضها. هل كان حقا ممكنا التعلم من هذه التجارب؟ او، هل نحن قابلون للتعلم من نجاحاتها واخفاقتها؟ اما التعلم من تجارب الغرب، فلا مجال له في المعلن من الخطاب. فالتغنّي بالنموذج الغربي مثل الاستسلام ل«غزوه الثقافي». لذلك فان عيننا المنصبة على الغرب لا تستطيع ان تتعلم منه شيئا. «تقاومه»، ولكن في سرّها تنسخ برامجه وفنه وطرقه وشبكاته وبرامجه، وحتى اخلاقه. نجح النسخ السري للغرب أم اخفق... لا يهم. (وهل ينجح النسخ على كل حال؟). لا يهم فعلا؛ والذي يشير الى هذه «اللامبالاة بالتفاصيل»، هو اننا بقينا على السؤال الاول: «لماذا تقدم الغرب؟ ونحن لا؟». مع كل الهجاء اليومي الذي نمارسه ضد ثقافة هذا الغرب «المنحلّ...». هذا ما يأتي الى بالك عندما تتردّد امامك لازمة خطباء كبار مرشحين للانتخابات النيابية، من «اننا يجب ان نتعلم من تجارب غيرنا». وبعد ذلك يأتي السؤال: ما هي تلك التجارب والنماذج التي يقصدها هؤلاء المرشحون؟ «نتعلم من تجارب غيرنا» يشددون، لكنهم ينسون... ثم يضيفون «نتعلم من تجاربنا خصوصا». وهنا يكتمل معنى «التعلم من التجارب»، فيطرح ايضا السؤال: من الذي يا تَرى يتعلم من تجاربه الخاصة عندما تأتي الدعوة الى التعلّم على لسان صاحبها؟ اية تجربة بالضبط يقصد؟ ومن المقصود بالتعلّم؟ رافع شعاره؟ ام المصفّق لدعوته؟ ايماءات التصفيق والصفير الحادَين ووتيرة الخطابة تشير كلها الى ان التجربة المطلوب مراجعتها ليست تجربة صاحب الدعوة ولا بطبيعة الحال مؤيديه. فالحق معهم على طول... كيف يكونون في موضع التعلم من «تجربتهم الخاصة»، وهم اجتمعوا هنا، مرشحين ومؤيدين، من اجل تأكيد استمرار نجاح تجربتهما؟ وان هذه التجربة هي الماضي الزاهي والعراقة والقِدم وطبعا... التجربة (ألم يأخذ احد اصحاب «تجاربهم الناجحة» على صغر سن مرشحين منافسين وعدم خوضهم التجربة الناجحة... مثله؟). الآن، ضعْ جانبا اقوال الزعيم المرشح، ثم تساءل، هكذا... من اجل نفسك: هل حقا تعلمنا، بعد حروبنا الاخوية وغير الاخوية من اين تأتي هذه الحروب؟ وكيف يبرمج وقودها الحامي؟ وكيف لا نستيقظ على خرابها الا بمزيد من التنازل عن حياتنا... وكأننا لا نرى في انفسنا اصحاب حق في الحياة العادية، غير المجبولة بالدماء. الم نلدع آلاف المرات بسموم الطائفية؟ بما فيه الكفاية؟ لنتحول في احدى الليالي المجرَّبة نحو المذهبية... ولعبة الابتزازَين المذهبي والطائفي؟ رافعو شعار «التعلم من تجاربنا وتجارب غيرنا» من مرشحي الانتخابات الجارية اليوم ربما يعْنون بالضبط ما يفهمه جمهورهم المتحمس سلفا لأية اشارة ضد «الغير». المعروف سلفا ايضا. ليس اليابان ولا النمور... انه اكثر محليةً. اكثر شفاهةً. لا اثر له في المطبوعات. يقصدون بالتعلم اصحاب تجارب غيرهم هؤلاء الاقربين. لا تجاربهم طبعا، الموصوفة ب«إنتصاراتها» و«إنجازاتها». مرة اخرى: يفترض بالتعلّم ان يؤدي الى تغيير ما، أليس كذلك؟ ولكن اي تغيير؟ وهنا يكتمل شعار «التعلّم من التجارب...» بشعار آخر، ممتلىء بنفسه إعتزازاً: «نغيّر من غير ان نتغير». والآن، تغيير ماذا؟ تغيير كل ما لا يعجبنا، في السياسة خصوصا. وما الذي لا يعجبنا؟ كل شيء، الا «نحن». نحن، اي الهوية، او المجمع الخاص لكل طائفة، بزعيمها وجمهورها. ال«نحن» هؤلاء لهم من العزة ما يحرم مجرد الاشارة اليها الا بالتقديس والتشريف. حلقة مغلقة على الآخر، المختلف بالمذهب او الطائفة او «السياسة»، او بالاحرى الشقاق «الداخلي». تجمعات فسيفسائية من الناس بزعمائها وطقوسها ولهجتها والوانها... فائقة المحلية. «نغير من غير ان نتغير»؛ وعد للنفس، تطويب لها. وتهويل ضد من ليس «نحن»؛ انه تخويف متبادل. واذا اردتَ ان تضع هذه اللازمة او الشعار على ضوء التجارب التي «يجب ان نتعلم منها»، فسوف تلاحظ ان دورة التهويل المتبادلة، كانت دورات عنف عارٍ. «نغير ولا نتغير»... لم يكسرها الا ميزان السلاح، اخوي او اسرائيلي، المهدد لأمن الناس، بزعمائهم وجمهورهم. العنف: ذاك هو حقيقة الدرس المستفاد من تجاربنا السابقة. اكثر من الموت والدمار؟ فماذا تغير فينا؟ إلا طائرنا الاسطوري الفينيق، اللاهث خلف وتيرتنا السريعة لدورات الموت والدمار. فينيق مفْلس يرفع الانقاض. والنتيجة هي التي امامنا... لماذا حقا لا نتعلم لا من تجاربنا ولا من تجارب غيرنا؟ من يعلمنا هذه التجارب؟ وكيف نتعلم؟ وما هي اقنية التعلم؟ ما هي مضامينه وطرقه؟ «نتعلم»، وبسرعة، ان الاقوى على الارض هو الذي يعلمنا او يلقننا تجربته. فنلوذ ونسمعه يعلمنا بأبّهة صوته وصورته. ففي اية عملية من عمليات تعلم تجاربنا ساهمنا في صياغة تصورات ومعانٍ مشتركة لتخاصمنا الطائفي، والآن المذهبي؟ كيف نتعلم من تجربة لم نساهم بإنجاحها الا بالتصفيق المغناطيسي والحماس المبرْمج، أو الهروب الكبير...؟ لكن الاهم أننا، بعد المشاركة في صياغة تجربة لم نكن سوى وقودها؛ ومن اجل خوض تجربة اخرى، علينا الاقرار بان شيئا فينا يجب ان يتغير. واننا لن نغير شيئا اذا لم يتغير هذا الشيء في انفسنا. بل لا تجارب نتعلم منها الا تلك التي تغيرنا. ولكن اذا أخفق الموت، الموت نفسه، بكل جبروته، في تغييرنا... فأين تكون العلّة؟