تظل الأغنية أكثر الفنون مباشرة في صنع المتعة وإعادة صنعها، بخاصة إذا كانت متميزة، سواء من جهة من كتب كلماتها أو وضع ألحانها أو، وهذا هو الأهم، من أداها. فلا أغنية بلا صوت رائع، وإن كان مشروطاً بوجود العنصرين الأولين بالضرورة. في البرنامج الجديد على القناة المغربية الثانية الذي يتمحور حول الطرب، يلعب الصوت دوراً أساسياً، بل هو ميزته الخاصة. غير هذا، فمثل هذه البرامج كثيرة تخلق وتكرر نفسها مكررة برامج مشابهة، ما دام الغناء هو الأصل، بحيث يصعب ابتداع التفرد. «كوك استوديو» لا يمنح الصوت الجديد، ولا يبحث عن المواهب، ولا يكتشف اسماً طربياً جديداً، لكنه يعيد ما هو معروف في شكل جديد. نكرر هذه الكلمة مراراً لأنها الهدف الذي يُنَقَّبُ عنه في مجال السمعي البصري التلفزيوني. أخذ هذا البرنامج المُدْرج في مجال الاستمتاع الترفيهي لونه وصيغته من برنامج «كوك» العالمي الذي نشأ للمرة الأولى في باكستان قبل سنوات، ثم ولَّدت نُسخاً مماثلة في دول أخرى، ومنها من هي عربية. وأول ما يطالع المشاهد هو وجود عرض أستوديو رائق وباذخ بديكور تتراقص فيه الأضواء والألوان والأصداء المفتعلة والحقيقية لخلق خلفية موسيقية تعتمد تقريباً على كل آلات العزف المعروفة، عربية كالعود، وغربية كالساكسوفون، وغرائبية كتلك المعروفة لدى شعوب معينة إيقاعية بالأساس لكنها دخلت الجوقة الموسيقية العالمية. وهذا ليس سهلاً عندما يتعلق الأمر بالأغاني العربية الكلاسيكية التي تحب أوركسترا تقليدية وأداء متناغماً معها. لكن الحقيقة أن العمل الإعدادي من قبل يجعل الأغنية تجد شكلاً آخر، وهو يجري في يوميات تجمع المؤدين بالموسيقيين لضبط اللحظة المناسبة لالتقاء الأصوات والمعارف، ما يُوجِدُ حالات متصدية بالتبادل والتداخل مع المدعوين للغناء وتشنيف الأسماع. إذن هذا يعتمد على خلطة عجيبة، هي المُجَدَّدُ هنا، أي الأداء بواسطة مطربين اثنين لأغنية معينة لها تاريخ وشهرة وتحضر في ريبرتوار راسخ برفقة عزف يزاوج بين القديم والحديث. «الدويتو» الغنائي، الذي وإن لم يكن غير مسبوق كتفصيلة، هو أمر محبذ يجعل الطبقات الصوتية المختلفة تتلاقى لبث انفعال عاطفي محدث، بخاصة أنه يلاقي فناناً أو فنانة من جيل سابق ومعروف مع فنان أو فنانة من الجيل الجديد يأتي على رأسهم العديد من الذين تألقوا ونجحوا في برامج مسابقات المواهب في القنوات المغربية والعربية، وهذا بمنحهم فقرة اختبار وتألق جديدين. وذلك ما حدث في الحلقات التي بُثت خلال الشهر الجاري الذي شهد انطلاقة البرنامج في المغرب تحت شعار «بروح مغربية». والحق أن الأغاني التي تتبعناها كانت في مستوى مقبول أداء وتوزيعاً وتصويراً. نعم تصويراً، لأن عملاً كبيراً ساهم في منح الأغنية بعداً بصرياً، من حيث إبراز المغنيين في أوضاع عدة، ومن حيث فرض الإيقاع الذي يتلاحق بتوال يساعد على تتبع الغناء. هو مثل إعطاء حياة جديدة لكل أغنية منتقاة. في هذا الإطار كانت أغنية الملحون الشهيرة «لغزال فاطمة» التراثية التي نظمها علي بن إدريس، أكثر من رائعة بصوتي الشابة نبيلة معان وسعاد حسن، وأيضاً أغنية لطيفة رأفت المعروفة «خوييى» التي أدتها رفقة الشاب دوزي، والأغنية الأمازيغية الريفية الشعبية «كع كع زبيدة» التي غناها عبد المولى ورشيد القاسمي، وأغنية «مول الكوتشي» للمغني الشعبي فيصل رفقة الشابة خولة مجاهد. هي أغان تم اختيارها من النوع الشعبي والعصري، باللغة العربية كانت أم باللغة الأمازيغية، وهو ما يبين عن توجه يطاول حتى الأغاني التي غاصت في النسيان. كيفما كان الحال، وبعد أن السماع لهذه المقطوعات يظل صدى صاخباً يرن في الأذن يُعَوِّم الأصل كثيراً، فإن إحياء الطرب مَزِيَّة في حد ذاتها.