فاجأت المملكة العربية السعودية الخميس الماضي الأوساط السياسية والعسكرية الدولية، بمضيها قدماً في الإعلان عن إتمام أول صفقة تسلح ضخمة تعقدها رسمياً مع روسيا. ومردّ تلك المفاجأة يعود إلى أن المملكة اعتادت لعقود طويلة تزويد جيشها بأسلحة غربية، خصوصاً من الولاياتالمتحدة الأميركية التي تعد المورد الأول للسلاح إلى القوات المسلحة السعودية، وكذلك من بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى. وللمرة الأولى منذ 30 عاماً تقريباً، تعقد السعودية صفقة تسلح ضخمة مع دولة شرقية، فمنذ أن كشفت الصحافة الأميركية في آذار (مارس) 1988 عن حيازة المملكة صواريخ استراتيجية صينية (أرض- أرض) المعروفة ب «رياح الشرق»، لم يعلن عن عقد المملكة عن أية صفقات كبرى مع أي دولة شرقية على غرار تلك الصفقة، مع ملاحظة فارق أساسي بين الصفقتين، فبينما تعتبر الصواريخ الصينية أسلحة استراتيجية هجومية، فإن العنصر الأبرز في الصفقة الروسية المتمثلة في نظام الدفاع الجوي (S-400) كونه سلاحاً دفاعياً بحتاً. واجهت صفقة صواريخ «رياح الشرق» في أواخر الثمانينات معارضة أميركية كبيرة تركزت على الجانب السياسي، وعن أثر الصفقة في ميزان التفوق العسكري في منطقة الشرق الأوسط، الذي تحرص الولاياتالمتحدة على إبقائه مائلاً لمصلحة إسرائيل. صرح المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية في ذلك الحين تشارلز ردمان، بأن «حصول المملكة على تلك الصواريخ لا يخدم قضايا السلام والاستقرار في المنطقة»، فيما اعتبر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي كلايبورن بيل «أن الصواريخ تشكل تهديداً لإسرائيل»، كما أسفر التوتر بين البلدين الحليفين نتيجة تلك الصفقة عن مغادرة السفير الأميركي هيوم هوران المملكة. لكن الانتقادات الأميركية التي وجهت للصفقة الأخيرة بين السعودية وروسيا، ركزت بالدرجة الأولى على الجوانب الفنية للصفقة، إذ أعربت وزارة الدفاع الأميركية عن قلقها من الاهتمام الذي يبديه عدد من حلفاء الولاياتالمتحدة بمنظومات (S-400) الصاروخية الروسية للدفاع الجوي، إذ سبقت تركيا– بفترة وجيزة– السعودية في طلب شراء المنظومة ذاتها. وقالت الناطقة باسم وزارة الدفاع ميشيل بالدانزا، في مؤتمر صحافي عقدته مساء الخميس بعد ساعات قليلة من الإعلان عن الصفقة، «إننا نشعر بقلق من شراء بعض حلفائنا لمنظومة (S-400)، لأننا شددنا مراراً على أهمية الحفاظ على التوافق التشغيلي لأنظمة الحلفاء مع أنظمة أسلحة الولاياتالمتحدة والدول الأخرى في المنطقة، وذلك خلال تنفيذ صفقات عسكرية كبيرة خاصة بشراء الأسلحة، لأن ذلك ضروري لمواجهة التهديدات المشتركة». وسبق أن أبدت الولاياتالمتحدة الرأي ذاته حيال الصفقة، بعد الإعلان عن صفقة مماثلة تركية لشراء المنظومة نفسها، وهي ملحوظة يتفق معها بعض الخبراء العسكريين، إذ يشيرون إلى صعوبة التوفيق بين المنظومات العسكرية الغربية والشرقية، لا سيما أنظمة التعريف (Identification Friendly or Foe) المعروفة اختصاراً ب(IFF)، ويضربون مثالاً على ذلك بفشل وحدة صواريخ دفاع جوي «بانتسير– روسية الصنع» تتبع القوات المسلحة الإماراتية في التعرف إلى طائرة (بلاك هوك– أميركية الصنع) تتبع القوات المسلحة السعودية، في محافظة مأرب اليمنية قبل أشهر، على رغم أن وحدة الصواريخ الروسية الصنع والطائرة الأميركية الصنع تنتميان للتحالف العسكري نفسه. لكن مصدراً عسكرياً أميركياً– لم يكشف عن هويته– ذهب بعيداً في تقديره لمستقبل الصفقة السعودية- الروسية، عندما استبعد في تصريح بثته قناة الحرة الأميركية الناطقة بالعربية أن تصل الصفقة إلى مرحلتها النهائية، مبرراً ذلك بأنها «ستثير معارضة إقليمية من دول أساسية في المنطقة في مقدمها إسرائيل». كما قلل المصدر من جدوى شراء الرياض المنظومة الروسية، في وقت تنشر الولاياتالمتحدة نظام (ثاد) في دولة الإمارات العربية المتحدة، في إطار استراتيجية المظلة الرادعة الأميركية، بالتنسيق مع مجلس التعاون الخليجي في وجه إيران. وبدا لافتاً التبرير الذي قدمه المصدر العسكري الأميركي لتوجه السعودية لشراء السلاح الروسي، بأن «مرده تأخر البنتاغون والكونغرس في بيع نظام ثاد الدفاعي الأميركي للسعودية»، وربما دفع ذلك وزارة الدفاع الأميركية للإعلان– بعد يوم واحد فقط من الكشف عن صفقة الأسلحة بين المملكة وروسيا- عن موافقة وزارة الخارجية الأميركية على صفقة محتملة لبيع نظام (ثاد) الدفاعي المضاد للصواريخ إلى المملكة، تقدر قيمتها الإجمالية بنحو 15 بليون دولار، وتشمل 44 منصة إطلاق و360 صاروخاً ومحطات تحكم وأجهزة رادار، كانت المملكة قد طلبت شرائها قبل سنوات. وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن توجه المملكة لشراء أنظمة سلاح روسية من بينها (S-400) متداول إعلامياً منذ سنوات، وليست سراً تخفيه المملكة عن حليفتها الأبرز الولاياتالمتحدة، وليس معلوماً ما إذا كانت الإدارة الأميركية قد سبق لها أن أبلغت المملكة بتحفظاتها على إتمامها في الفترة الماضية. وبخلاف القلق الأميركي من الصفقة، المبرر بأسباب فنية ومعارضة «دول أساسية في المنطقة في مقدمها إسرائيل»– وفقاً للمصدر العسكري الأميركي-، وهي معارضة معتادة متوقعة، يبدو أنها ستثير أيضاً قلقاً لدى النظام الإيراني وحلفائه في المنطقة، خصوصاً أن إيران تنظر إلى المملكة كمنافس شرس لها على النفوذ في المنطقة، وكل تعزيز لعلاقات المملكة الدولية أو لقدراتها العسكرية يشكل مبعث قلق لها، علماً أنها كانت قد اقتنت أخيراً، وبعد مماطلة روسية استمرت لسنوات منظومة صواريخ (S-300) التي تعد النسخة الأقدم والأقل تطوراً مقارنة بمنظومة (S-400) التي أُعلن عن تعاقد المملكة على شرائها. وكانت إيران سعت إلى الحصول على معلومات وأسرار عسكرية عن القوات المسلحة السعودية، عبر خلية تجسس ضمت 32 شخصاً، ألقت السلطات السعودية القبض على أفرادها في عام 2013، وحوكموا وصدرت بحقهم أحكام قضائية في عام 2016. كما أنه نظراً لكون إيران حليفاً إقليمياً لروسيا، فلن تنظر بعين الارتياح أبداً إلى أي تقارب بين المملكة– ذات الثقل الإقليمي الكبير والقدرات المالية القوية– وروسيا، قد يكون على حسابها، مع الأخذ في الاعتبار أن التقارب بين المملكة وروسيا آخذ في التنامي بوتيرة تصاعدية، وقد تشعب إلى مسارات متعددة، شملت العلاقات السياسية (على سبيل المثال: أعلنت روسيا دعمها لجهود المملكة لتوحيد المعارضة السورية)، والاقتصادية (لا سيما في قطاع الطاقة)، وأخيراً وربما ليس آخراً العلاقات العسكرية. توطين التقنيات وبالعودة، إلى تصريح المصدر العسكري الأميركي لقناة الحرة، ليس مؤكداً الربط الذي وضعه بين توجه السعودية لإتمام صفقة سلاح مع روسيا وبين تلكؤ بلاده في الموافقة على بيع المملكة نظام (ثاد) الدفاعي، إذ ثمة مميزات تتيحها مذكرة التفاهم وعقد الشروط العامة الموقعة بين الشركة السعودية للصناعات العسكرية مع شركة (روزوبورن إكسبورت) الروسية، قد تجعل من إتمامها ضرورة لا بد منها، حتى وإن عارضتها الولاياتالمتحدة، إذ تشمل نقلاً كلياً أو جزئياً لتقنيات تصنيع منظومات الأسلحة المدرجة فيها، والتي تشمل نظام الدفاع الجوي المتقدم (S-400)، وأنظمة (Kornet-EM)، وراجمة الصواريخ (TOS-1A)، وراجمة القنابل (AGS-30)، وسلاح كلاشنيكوف (AK- 103) وذخائره. وإضافة إلى سعي المملكة لتعزيز القدرات الدفاعية لقواتها المسلحة وقدرتها على الردع، تنسجم بنود الصفقة مع التوجه السعودي المعلن ل «نقل تقنيات نوعية للمملكة تدعم توطين 50 في المئة من الإنفاق العسكري للمملكة، بما يحقق أهداف رؤية المملكة 2030 التي أطلقها ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان وأسند مهمة تنفيذها إلى الشركة السعودية للصناعات العسكرية، وهي شركة حديثة التأسيس تتبع صندوق الاستثمارات العامة، إذ أعلن عن تأسيسها في تموز (يوليو) 2017، ويرأس مجلس إدارتها أحمد الخطيب، وهو خبير اقتصادي يتقلد حالياً مناصب حكومية عدة، إلى جانب هذا المنصب. وحدد الأمير محمد بن سلمان الخطوط الرئيسة لعمل الشركة السعودية للصناعات العسكرية، في تصريحه المنشور لمناسبة تأسيسها، وهي أن تكون محفزاً أساسياً للتحول في قطاع الصناعات العسكرية وداعماً لنمو القطاع ليصبح قادراً على توطين نسبة 50 في المئة من إجمالي الإنفاق الحكومي العسكري في المملكة بحلول عام 2030». ولاستجلاء حجم التحدي الذي تواجهه الشركة لتحقيق هذا الهدف الطموح، تجدر الإشارة إلى ما ورد في تصريح الأمير محمد بن سلمان نفسه، من أنه «على رغم أن المملكة تعتبر من أكبر خمس دول إنفاقاً على الأمن والدفاع على مستوى العالم، إلا أن الإنفاق الداخلي لا يتعدى اليوم نسبة 2 في المئة من ذلك الإنفاق»، علماً أن تقريراً لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) قدر موازنة الإنفاق العسكري للمملكة في عام 2016 بنحو 63.7 بليون دولار، واضعاً إياها في المرتبة الرابعة في حجم الإنفاق العسكري بعد الولاياتالمتحدة والصين وروسيا. ووفقاً لتصريح ولي العهد السعودي، ستطرح الشركة منتجاتها وخدماتها في أربعة مجالات حيوية يكمّل بعضها بعضاً وتوفر الحاجات الرئيسية للقطاع العسكري في المملكة مستقبلاً، مع الاستفادة من القدرات الصناعية العسكرية الحالية في المملكة. وهذه المجالات الأربعة هي: «مجال الأنظمة الجوية ويشمل صيانة وإصلاح الطائرات ثابتة الجناح وصناعة الطائرات من دون طيار وصيانتها، ومجال الأنظمة الأرضية وتشمل صناعة وصيانة وإصلاح العربات العسكرية، ومجال الأسلحة والذخائر والصواريخ، ومجال الإلكترونيات الدفاعية وتشمل الرادارات والمستشعرات وأنظمة الاتصالات والحرب الإلكترونية». كما أوضح أن الشركة السعودية للصناعات العسكرية «ستعمل على تأسيس شركات تابعة في كل من المجالات الأربعة، من خلال مشاريع مشتركة مع شركات التصنيع الأصلية (OEMs)، وبالاستفادة من شركات الصناعات العسكرية المحلية. أما مستقبلاً، فتحتفظ الشركة بالمرونة الهيكلية لتأسيس مزيد من وحدات الأعمال، بحسب ما قد يبرز من التطورات على مستوى التقنيات الحديثة والتوجهات في الصناعات العسكرية. وبطبيعة الحال، لن يكون تحقيق الهدف الطموح لتوطين 50 في المئة من الإنفاق العسكري السعودي بحلول 2030 سهلاً، قياساً بعدد السنوات المتبقية وصولاً إلى ذلك العام، وكذلك قياساً بحجم الإنفاق المراد توطينه، في ظل حجم الإنفاق العسكري الكبير للمملكة من جهة، وكذلك ضآلة حجم الإنفاق الداخلي من إجمالي ذلك الإنفاق، والذي لا يتجاوز حالياً 2 في المئة وفقاً للتصريحات الرسمية، فضلاً عن الحاجة إلى بناء كوادر وطنية مؤهلة في مجال التصنيع العسكري. لذلك يبدو أن إتمام الصفقة الروسية، وتحويل بنود مذكرة التفاهم وعقود الشروط العامة الموقعين بين الجانبين السعودي والروسي، خطوة مهمة نحو المسارعة في تحقيق جزء كبير من هدف توطين الإنفاق العسكري، وكذلك لاشتمالها على برامج لتعليم وتدريب الكوادر الوطنية في مجال الصناعات العسكرية، بما يضمن استدامة وتطور هذا القطاع في المملكة، علماً أنه لم يتم الإعلان عن كامل تفاصيل تلك الاتفاقات، خصوصاً القيمة المالية لها، والتي قد تصل إلى عشرات بلايين الدولارات. ولا بد من الإشارة إلى أن روسيا أثبتت عملياً قوتها العسكرية وكفاءة منظومات أسلحتها المختلفة بتدخلها في سورية إلى جانب نظام بشار الأسد، وعلى رغم اختلافنا في المملكة مع روسيا في هذا التدخل، إلا أن الشواهد على الأرض تؤكد أنه نجح في تغيير موازين القوى على الأرض لمصلحة القوات الموالية لنظام الأسد ضد معارضيه، وأسهم في فرض روسيا كقائدة لجهود الحل السياسي عبر مفاوضات «آستانة»، والتي قادت حتى الآن إلى الإعلان عن مناطق لتخفيف التوتر في مختلف أرجاء سورية. ومع ما قد يثار عن توجيه إسرائيل ضربات عسكرية متكررة في عمق الأراضي السورية، من دون أن تجابهها القوات الروسية – على الإطلاق – بمنظومات أسلحتها المنشورة على الأراضي السورية، لا سيما منظومة صواريخ الدفاع الجوي (S-300)، إلا أن التحليل الوحيد الممكن لذلك يكمن في أن ضوءاً أخضر روسياً سمح لإسرائيل بتنفيذ تلك الهجمات، وليس لضعف قدرات تلك الأنظمة في الرد والمجابهة. وسبق لمنظومات الدفاع الجوي الروسي أن ساندت القوات السورية في التصدي للطيران الإسرائيلي في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، وحققت تلك المساندة نتائج متفاوتة بين النجاح في التصدي حيناً والفشل في أحيان أخرى، كما أن تلك المنظومات نجحت في تحقيق نتائج كبيرة في التصدي للطائرات الأميركية في كوريا وفيتنام، بل في الأجواء الروسية، لعل أشهرها إسقاط طائرة (يو-2) أميركية في عام 1960 وأسر قائدها. أخيراً، ليست جميع صفقات الأسلحة ذات أهداف عسكرية بحتة، وإنما فيها قدر من السياسة والتخطيط الاستراتيجي للعلاقات الدولية، فالعلاقات السعودية– الصينية بدأت فعلياً بعد صفقة صواريخ «رياح الشرق»، وقد تقود صفقة الأسلحة والاتفاقات الموقعة بين السعودية وروسيا البلدين نحو علاقات سياسية أكثر قوة وتأثيراً في مستقبل منطقة الشرق الأوسط. فقط علينا أن ننتظر أن تمضي الصفقة قدماً لنستكشف آثارها الكاملة. * إعلامي سعودي