في عام 1865 تجشّم رجل في الحادية والأربعين من عمره مشقة الانتقال من مدينة فيينا الى مدينة ميونيخ، وليس لديه سوى هدف واحد: حضور العرض الأول لأوبرا «تريستان وايزولت» لريتشارد فاغنر. كان فاغنر بالنسبة الى ذلك الشاب مثلاً أعلى في عالم الإبداع الموسيقي، وهو لاحقاً سيهدي اليه سيمفونيته الثالثة اعترافاً بفضله عليه. ذلك ان الشاب كان موسيقياً لامعاً قبل رحلته الى ميونيخ، وسيظل موسيقياً لامعاً بعد ذلك. واذا كان هو ونقاده كذلك قد وجدوا في ذلك التبجيل الذي كان ينظر به الى فاغنر مدعاة للاعتقاد بأنه لم يكن سوى انعكاس للموسيقي الكبير ومقلّد له، فإن العقود التالية من السنين ستكشف، ولكن بعد سنوات عدة من رحيل الموسيقي الشاب المتحمس، انه لم يكن أبداً مقلّداً لصاحب «تانهاوزر» بل إن موسيقاه شيء آخر تماماً، ولعلها اكثر روحانية وسمواً بكثير من موسيقى المعلّم الكبير، خصوصاً ان الموسيقي الشاب لم تكن الأوبرا همه الأول، بل كرس جهوده وطاقته كلها للأعمال السيمفونية الكبيرة التي إذ ظلمت كثيراً خلال حياته، عادت الأجيال التالية وقدّرتها تقديراً كبيراً. ومن هنا صارت لدينا نظرتان لأنطون بروكنر (وهو اسم ذلك الموسيقي الشاب الذي نتحدث عنه): نظرة قبل رحيله ونظرة بعد رحيله. والحال ان النظرة الثانية كانت الأكثر صواباً، خصوصاً ان المؤرخين والدارسين عادوا وربطوا بينه وبين شوبرت اكثر مما ربطوا بينه وبين فاغنر. وهم، لئن اعطوا قيمة كبيرة - تعادل قيمة معطاة لبيتهوفن بالنسبة الى البعض - لسيمفونياته، فإنهم بعد ذلك راحوا يتلمّسون ضروب العبقرية الاستثنائية في ألحانه الدينية. كما انهم وجدوا في تلك الألحان عناصر ريفية وذاتية حملها معه بروكنر من طفولته وصباه. ومن هنا إذا كان تاريخ الموسيقى قد اعتبر بروكنر واحداً من كبار المؤلفين السيمفونيين في زمنه، فإنه نظر اليه أيضاً بصفته واحداً من اعظم مؤلفي الموسيقى الدينية. أما العمل الرئيس الذي يفكرون به حين يطلقون هذا الحكم فهو ألحان «المزامير» التي وضعها بروكنر خلال مرحلة طويلة من حياته: ذلك ان بروكنر لحّن خمسة مزامير، أولها كان في عام 1852 وآخرها في عام 1892، أي قبل رحيله بأربع سنوات. و «المزامير» التي نتحدث عنها هنا هي بالطبع تلك الأناشيد التي تشكل جزءاً من «العهد القديم» والتي تعرف في العالم المسيحي والعالم الإسلامي تحت اسم «مزامير داود» مما يوحي بأنها من تأليف داود، مع ان مؤرخي الأديان ينوّعون عادة أسماء الذين تنسب تلك المزامير اليهم، إذ ينسبون الى داود 74 مزموراً منها، و12 الى آصاف و11 الى ابنا قوريه، و2 الى النبي سليمان، بل ثمة مزمور ينسب أيضاً الى النبي موسى. المهم ان هذه المزامير فتنت الموسيقيين والشعراء كثيراً منذ فجر التاريخ التوحيدي، وكان انطون بروكنر، بنزعته الروحية المبكرة واحداً من المفتونين بها. وهو إذ كان في الأصل يريد تلحين عدد كبير منها، فإنه في نهاية الأمر لم يلحن سوى خمسة مزامير. وكان المزمور الأول الذي لحنه بروكنر هو المزمور «22» الذي جعله يقدم من كورس مختلط مصحوباً بآلة البيانو... وعادة ما يعتبر النقاد هذا المزمور من الناحية الموسيقية ثانوي الأهمية. وفي المقابل يعطون أهمية كبرى الى ثاني مزمور لحنه بروكنر وهو يحمل الرقم «114» وجعله لكورس مختلط وخمسة أصوات وثلاث آلات ترومبون. لحن بروكنر هذا المزمور في عام 1854 وكان في الثلاثين من عمره... وظهر منذ البداية غنيّاً بالابتكارات اللحنية، حيث يبدو الانتقال شديد البساطة والسلاسة بين المقاطع الهادئة ومقاطع أخرى تصل الى درجة عالية من السمو. وبعد ذلك المزمور الذي ادهش عالم الموسيقيين وجعلهم يتنبهون الى مواهب بروكنر، أتى المزمور 146 الذي تؤديه أصوات منفردة وكورس كبير وأوركسترا كبيرة في الوقت نفسه... وهو أتى عملاً ضخماً وجديداً من نوعه كشف عن ان مؤلفه يعيش حالة انتقالية روحية حقيقية، خصوصاً انه أعطاه شكل الكانتانا مع تكرارات تزداد صعوداً بين جملة موسيقية وأخرى وكأن المطلوب من الموسيقى هنا ان تصل الى لحظات سمو كبرى... ولقد لاحظ النقاد في هذا العمل، ومنذ تقديمه للمرة الأولى نوعاً من التركيز على التجديد في التوزيع الاوركسترالي. المزمور الرابع في سلسلة بروكنر هو الذي يحمل الرقم «112» وجعله الموسيقي يقدم من كورسين منفصلين وأوركسترا، وهو انجزه في عام 1863، وبدا على الفور عملاً ناضجاً ذا تقنية اوركسترالية شديدة الحداثة، حتى وإن كان بعض النقاد قد رأى ان بروكنر غلّب فيه التقنية على العفوية، ما وسم بعض اللحظات بطابع مادي بحت، أبعد العمل برمته من ان يتخذ ذلك الطابع الشخصي الذي كان قد طبع المزامير الثلاثة السابقة. أما المزمور الأخير الذي لحنه بروكنر، فكان ذاك الذي يحمل الرقم 15، وقد لحّنه الموسيقي - كما اشرنا - في عام 1892، جاعلاً منه آخر عمل ديني يؤلفه على أي حال. ويبدو ان وصول بروكنر في هذا العمل الى لحظات السمو القصوى كان هو ما دفعه الى عدم خوض التجربة من جديد، ذلك ان هذا المزمور الخامس، وصل فيه الأداء الموسيقي الى ذلك المستوى الذي يقال معه ان المؤلف لم يعد في حاجة الى المزيد لكي يثبت عبقريته. وثمة من بين النقاد من يقارن عمل بروكنر هذا، بالقداس الأخير الذي وضعه موتسارت وببعض اهم الأعمال الدينية التي كتبها باخ وفيفالدي وغيرهما من كبار مؤلفي الأعمال الدينية في تاريخ الموسيقى. إذاً، عرف انطون بروكنر كيف يوصل موسيقاه في مزموره الخامس هذا الى ذروة التعبير، في شكل بدا معه وكأن المزامير الأربعة الأولى لم تكن سوى تجارب خاضها الفنان على مدى عقود من السنين، حتى توصله الى ذلك العمل الأخير. وحسبنا لإدراك هذا ان ننقل عن الاختصاصيين في موسيقى بروكنر كيف ان هذا الأخير غلّف هذا المزمور كله بطابع من نشوة الفرح والانتصار منذ اللحظة الأولى التي يدخل فيها الكورس كله منشداً في صوت موحد محدثاً مفاجأة موسيقية مدهشة، حتى لحظات المزمور الأخيرة، حين يصرخ الكورس، وبصوت واحد أيضاً: ألا فليمجّد الله كل من له نفس على وجه هذه البسيطة! والحقيقة ان هذا العمل الاستثنائي الكبير اتى تتويجاً لحياة هذا الفنان، الذي ظل طوال سنوات حياته متواضعاً وبسيطاً، بساطة الريف الذي ينتمي اليه أصلاً، والذي ظل حتى سنواته الأخيرة يبدي أسمى آيات الاحترام للفنانين الذين سبقوه والذين قال دائماً انه يشعر بدين كبير تجاههم. وبروكنر ولد العام 1824 ابناً لمدرّس في قرية ريفية، مما وسمه منذ صغره بطابع ريفي لم يفارقه أبداً. وهو دخل عالم الموسيقى باكراً، في كنيسة سان فلوريان في النمسا، وطنه، ثم في معهد مدينة لينتس، قبل ان ينتقل الى فيينا حيث بدأ فيها خطواته الأولى في مجال التأليف الموسيقي. أما اللحظة الانعطافية في حياته فستكون عند لقائه فاغنر وانضمامه الى الحلقة المحيطة بفنان الاوبرا الكبير ما خلق سوء التفاهم الذي تحدثنا عنه. وفي عام 1865، إضافة الى تكثيف مؤلفاته الموسيقية ولا سيما في مجال التأليف السيمفوني، بدأ بروكنر يدرس الموسيقى في فيينا التي لن يبرحها حتى مماته... والحال ان بروكنر بسبب تواضعه، ظل يعيش على الهامش حتى من بعد رحيله... فكان ان اكتشفه نقاد الموسيقى - والجمهور بالتالي - في شكل متأخر، واكتشفوا خصوصاً الى «مزاميره» سيمفونياته ولا سيما منها الرابعة والسابعة اللتان تعتبران من اجمل الأعمال الموسيقية التي كتبت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. [email protected]