منذ أزمان موغلة في البعد، تغري «الكوميديا الإلهية» لشاعر إيطاليا النهضوي دانتي، كبار الفنانين والادباء بالاقتراب منها، استيحاء أو محاكاة، أو حتى في محاولات لترجمتها الى أصناف اخرى من الفنون. ومن المعروف ان الفن التشكيلي، منذ عصر النهضة وصولاً الى دوريه في القرن التاسع عشر، وسلفادور دالي في القرن العشرين، جرّب حظه مع «الكوميديا» ونجح، على عكس فنون اخرى لم يحالفها التوفيق نفسه. ومرد ذلك بالطبع، صعوبة الدنو من عمل يستغرق مئات الصفحات وتنفرد احداثه في تلك الاماكن البعيدة البعيدة، ويكاد يكون بعده الجوّاني أكثر ثراء من بعده البرّاني. ومن هنا ظلت «الكوميديا»، مثلاً، عصية على المسرح وعلى الاوبرا، ثم، في أزمان أقرب إلينا، عصية على السينما. غير ان الموسيقى الأوركسترالية، لا المسرحية/ الأوبرالية، لم تجابه بتلك الصعوبة نفسها، ومع هذا كان نادراً جداً اقتراب هذا الفن التجريدي الخالص، من عوالم الما - وراء الدانتية. وحده المجري فرانز ليست حقق، الى حد علمنا، ذلك الاختراق، واضعاً عملاً كبيراً، من الغريب انه يكاد يبدو اليوم منسياً الى حد ما. وربما يعود هذا النسيان الجزئي الى غلبة أعمال أقل كلاسيكية وأكثر شعبية وربما فولكلورية أيضاً على «ريبرتوار» صاحب «الرابسودية الهنغارية». على رغم هذا، كان عمل ليست المقتبس من «الكوميديا الإلهية» هو نتاجه الاشهر خلال النصف الثاني من أربعينات القرن التاسع عشر، حين تجاوز المؤلف بداياته الخجولة بعض الشيء، ليلج مصاف الكبار. وبالنسبة إليه، حينها، لم يكن ذلك الولوج ممكناً من دون الاستناد الى كبار آخرين حقيقيين. وهكذا ما ان وجد في طريقه عملين ادبيين كبيرين يعتبران من شوامخ النصوص الأوروبية، حتى اندفع نحوهما من دون وجل أو تردد. حدث ذلك أواسط الاربعينات من ذلك القرن، إذاً، وكان ليست بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره... لكنه لن يقدم على التنفيذ الفعلي للعملين المرتبطين بالنصين المذكورين، إلا بعد ذلك بعشرة أعوام حين كانت عدته الفنية والتقنية قد اكتملت و... حسناً فعل. العملان المعنيان هنا، هما «الكوميديا الإلهية» لدانتي، كما أشرنا، ثم «فاوست» لغوته. وكان لافتاً أن العملين يتسمان معاً، بطابع تأملي فلسفي وربما ميتافيزيقي أيضاً، ما شكّل، في الوقت نفسه، تحدياً للموسيقي، وعوناً له أيضاً، طالما ان الموسيقى في ذلك العصر الذي غلبته الرومانسية كانت، أيضاً، مكاناً يمكن للأبعاد الروحية ان تتجلى فيه. فهل كان يمكن للروح ان تجد لنفسها تجلياً اروع مما يتيحه لها نص غوته، ونص دانتي؟ هكذا، إذاً، انطلق ليست في تأليفه الموسيقي المستوحى من العملين، وإذا كنا هنا سنتوقف فقط عند «الكوميديا الالهية»، فإن هذا لا يعني عدم وجود تواصل وتشابه - جوّاني - على الأقل بين العملين. كل ما في الأمر اننا نتحدث عن «الكوميديا الالهية»، لأن «فاوست» غوته يستأهل حديثاً مستقلاً آخر. والعمل الذي استوحاه فرانز ليست من رائعة دانتي، أطلق عليه موسيقياً اسم «دانتي – سيمفونية»، وهو جاء في نهاية الامر على شكل قصيدة سيفونية، اعتبرت دائماً - وأيضاً - الى جانب «فاوست»- أبرز عملين طبق فيهما فرانز ليست نظريات موسيقية كان اعلنها، مركزاً على الملاءمة فيها بين رومانسية متخمة بالابعاد الروحية وكلاسيكية تحاول ان تدنو من الواقع والحياة نفسيهما. والحال ان نقاداً كثراً رأوا في العملين، وربما خصوصاً في «دانتي- سيمفونية» مبالغة في التطبيق للنظرية يضع العمل ككل في خانة شبه اكاديمية، غير ان الجمهور العريض الذي احتفل بهذا العمل وأحبه منذ البداية كان له رأي آخر: رأى في العمل تحفة من طراز نادر. وهو ما جعل النقاد والمؤرخين يؤكدون عليه بعد نسيان طويل. منذ البداية كان ليست مدركاً للصعوبات التي تمثلها الترجمة الموسيقية لعمل من طراز «الكوميديا الإلهية»، حتى وإن كان المنطق يفرض عليه بالطبع، ان يكتفي بالتعاطي مع فصول قليلة ومحدودة من ذلك العمل الفسيح. ومن هنا نراه يحاول، بدلا من التحقيب، خوض لعبة توليف واضحة بين المواقف والفصول تختصر النص ومساره، لتتوقف عند ما هو أساسي. وعلى هذا النحو، قسم ليست القصيدة السيمفونية هذه الى ثلاثة اجزاء، سندرك لاحقاً، ان الاثنين الاخيرين منها، مرتبطان ببعضهما بعضاً. اما الجزء الاول، ويحمل طبعاً عنوان «الجحيم»، فإنه لحّن على شكل ثلاثية، تبدأ بمقدمة هي اشبه بمدخل الى العمل ككل، أتى قوياً ومفعماً بالبعد الدرامي، انطلاقاً من استخدام كلي الحضور، للآلات النحاسية التي حددت «التيمة» الأساسية للعمل. وبعد ذلك المدخل تتحول الموسيقى الى بعد غنائي عاطفي يجسد امامنا حكاية الغرام بين باولو وفرانشسكا، قبل ان تنتقل بعد ذلك وفي شكل عاصف الى خاتمة ذلك القسم المثلث. بعد «الجحيم» يأتي فصل «المطهر» بالطبع... وهنا بدا من الواضح ان ليست يريد ان يلج استراحة معينة يصور فيها هدوء الارواح وقد أدركت انها باتت شديدة القرب من أبواب الفردوس، وأن لا شيء يمكنه منذ تلك اللحظة العودة بها الى الجحيم... وهكذا يبدأ هذا القسم بلحن رزين يقدّم خصوصاً من طريق آلات النفخ (الكورات، والاوبوا، مع اطلالات للكلارينات اتت دائماً ممهدة لتدخل الآلات الوترية). والحال ان هذا التدخل كان بدوره لفسح المجال أمام ألحان شديدة العذوبة والهدوء تغرق السامع في أحلام ما ورائية مدهشة... وإذا كانت هذه الالحان تتزامن وتتقاطع متعددة، فإن لحناً واحداً منها سرعان ما يتجلى وحيداً مؤكداً ذاته وحضوره على حساب الألحان الأخرى. وهذا اللحن هو المسمى «ماغنيفيكات» والذي يتسم بطابع ديني أحياناً، ويستخدم كثيراً في الاوراتوريو. أما هنا فإنه، سرعان ما يسمح بظهور الكورس من دون سابق انذار ليدغم نشيد هذا الكورس في البعد السيمفوني اللاجئ الى دمج الآلات كلها في بوتقة لحنية واحدة. وهذا يمهد بالطبع للقسم الاخير من العمل حيث تبدو الموسيقى اكثر هدوءاً وجلالاً ما يُنهي العمل كله على آفاق وجدانية روحية تذكر بأجمل ألحان باخ الدينية. إذا كان فرانتز ليست، في بعض اعماله، قد توجّه الى الادب يستلهمه، فإن هذا يجب أن يذكرنا بأن حياته نفسها، هو الذي عاش بين 1811 و1886، كانت تبدو طالعة من عمل روائي ينتمي الى القرن الذي عاش فيه، بكل ما شهدته تلك الحياة من أجواء رومانسية ودرامية. فهو قدم أول حفل له حين كان في التاسعة، ثم التقى بيتهوفن وهو في الثانية عشرة، وأثار إعجابه الى درجة انه بعد تقديم عزف في فيينا، صعد بيتهوفن الى المسرح وعانقه. ومنذ تلك اللحظة بدأت شهرته تكبر، وراح يجول بين المدن الاوروبية، عازفاً، مؤلفاً وعاشقاً... وأنجب ثلاثة اطفال قبل ان يدخل ديراً في روما ويدرس اللاهوت. وأبدى ليست دائماً إعجاباً كبيراً بباغانيني، ما جعله يرغب في ان يكون بالنسبة الى آلة البيانو ما كانه المعلم الإيطالي بالنسبة الى آلة الكمان. وكان لهذه الرغبة اثر في طغيان شهرته كعازف على شهرته كمؤلف... ومع هذا فإن التاريخ حفظ له مكانته كواحد من كبار مجددي الموسيقى الرومنطيقية، هو الذي ولد معه ما سمّي لاحقاً «القصيدة السيمفونية». عرف ليست لاحقاً بمساعدته لكل زملائه الموسيقيين حين تواجههم صعوبات، وكان من بينهم فاغنز الذي ارتبط معه بصداقة لا سيما في بايروث التي لفظ فيها أنفاسه الاخيرة. [email protected]