اختطفه الفن من عالم الطب بعدما امتهنه لمدة عقد كامل، متفرغاً للعمل الإبداعي، وجاءت البداية السينمائية لمدحت العدل في 1992 مؤلفاً لفيلم «آيس كريم في جليم» الذي حقق نجاحاً كبيراً، لكونه اختلف عن النمط السائد آنذاك. فقد أتى الفيلم معبراً عن هموم وأحلام جيل بأكمله وتخللته مجموعة من الأغنيات كتبها بنفسه لعمرو دياب، ما زال يرددها الجمهور حتى اليوم. ومبكراً، تطرق العدل إلى قضية الهجرة غير الشرعية للشباب قبل أن تشغل الرأي العام بسنوات، طارحاً إياها عبر «أمريكا شيكا بيكا». ثم جاءت محطته الأقوى عبر «صعيدي في الجامعة الأمريكية» 1998 الذي حقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية قاطبة، وقدم مجموعة من الشباب، شكلوا نواة لنجوم السينما المصرية لاحقاً، ومنهم منى زكي ومحمد هنيدي وأحمد السقا وغادة عادل. كما يضم رصيده أفلاماً عدة مهمة بينها «البطل» لأحمد زكي، و «همام في أمستردام» و «الديلر»، فيما اتجه خلال السنوات الأخيرة إلى كتابة المسلسلات وأشهرها «الداعية» الذي هاجم خلاله «الحكم الثيوقراطي» و «الإخوان المسلمين» فيما كانوا لا يزالون في سدة حكم مصر. ينتمي مدحت العدل إلى عائلة فنية لم تتخذ الفن تجارة بقدر ما اعتبرته هدفاً لصناعة أعمال ذات قيمة، فشقيقه هو الفنان القدير الراحل سامي العدل، وهو يملك اليوم مع شقيقيه الآخرين محمد وجمال العدل أحدى أكبر شركات الإنتاج الفني في مصر، «العدل غروب». «الحياة» التقت المؤلف والمنتج مدحت العدل وكان هذا الحوار: مصر دولة كوزموبوليتانية تتسم أعمالك بالاشتباك مع قضايا وطنية وسياسية وقومية أحياناً... لماذا؟ - أنا أميل دائماً إلى صناعة أعمال تنويرية وتثقيفية. مثلاً لم يحرضني شخص أو مؤسسة لكتابة «حارة اليهود»، بل وجدت التوقيت ملائماً لطرح فكرة مفادها أن مصر دولة «كوزموبوليتانية»، تحترم كل الأديان والجنسيات، على مدار تاريخها، ولا يمكن أن يحكمها فصيل متطرف. وكنت أول من تطرق إلى الحديث عن القضية الفلسطينية والاستشهاديين عبر «أصحاب ولا بيزنس»، فأنا أكتب ما أؤمن به وما يؤرقني من قضايا. بينما جاء بعضها الآخر غريباً عن النمط السائد ومنها «قشر البندق» و «حرب الفراولة» وغيرها، لماذا؟ - أعتقد أنني اتسم بالجنون الفني، فلا أكتب ما هو نمطي، بل ما أحبه وأقتنع به لذلك تخرج أعمالي ذات طابع مختلف، ودفعتني الرغبة للكتابة عن جيلي لتأليف «آيس كريم في جليم»، أردت التحدث عن جيلي الذي يشبه أبطال الفيلم وكنت في مثل عمرهم آنذاك، وقدمت أول عمل يناقش الهجرة غير الشرعية عقب قراءتي لإحدى الحوادث. وأنا أؤمن أن الفن الذي يصنع بمتعة يأتي متميزاً، وليس بالضرورة أن أكون أفضل من غيري، لكني أحاول صناعة أعمال تشبهني. آثرت في الفترة الأخيرة الابتعاد عن السينما لمصلحة المسلسلات التلفزيونية، لماذا؟ - السينما هي التي ابتعدت عني، لكون الأمر ينطوي على مخاطرة، فإذا أردت إنتاج أعمال سينمائية، واسترداد الأموال المنفقة، ينبغي صناعة أفلام ذات نمط معين لا ننتجه وهي أفلام هابطة بإمكانها استرداد كلفتها خلال أيام، في حين نستهدف صناعة أفلام ذات قيمة فنية، ومن ثم لم يعد ممكناً صناعة عمل وحمايته، في ظل اتجاه المنتجين والموزعين إلى امتلاك دور العرض السينمائي، ما خلق نوعاً فريداً من «الاحتكار»، وهو ما لا يمكن أن أوقفه فردياً، بل يتطلب تدخل الدولة. ما شكل الحماية المطلوبة؟ - عبر سن قوانين تمنع الاحتكار وتعوق تحول مالكي دور العرض إلى الإنتاج وهو أمر متبع في العالم، فأي منتج سينحاز لأفلامه وينتقي توقيت وأماكن العرض الأفضل على حساب الأعمال الأخرى، وهذا من شأنه أن يشكل خسارة للمنتجين على كل الأصعدة ويهدد بإغلاق الشركات المنتجة. وفي الماضي كان هناك منتج وصاحب دور العرض، وموزع، ثلاثتهم شركاء في المكسب والخسارة. المغامرات المحسوبة تبنت «العدل غروب» مواهب في بداية طريقها، ألا يعد ذلك مخاطرة، في ظل استعانة غالبية الشركات بنجوم الشباك درءاً للخسائر؟ - طوال تاريخنا نستعين بالوجوه الجديدة، وقدمت أفلامنا جيلاً كاملاً من صناع السينما من مؤلفين أو مخرجين وليس ممثلين فقط. وهذا جزء من مسؤوليتنا ونطلق عليها «مخاطرة في الطريق الصحيح» أو «مغامرة محسوبة»، ودائماً الشركات المحترمة تعقد توازناً بين المكسب المادي المعنوي، بدافع احترامنا لأنفسنا وما نقدمه من فن. حقق «صعيدي في الجامعة الأمريكية» نجاحاً لم يتكرر في تاريخ السينما المصرية ما تفسيرك؟ - لا يوجد فيلم سيصل لما حققه ذلك الفيلم الذي بلغت إيراداته 28 مليون جنيه، حين كانت تذكرة السينما بمبلغ 5 جنيهات، وبحسابات اليوم ما يعادل نحو 400 مليون جنيه (نحو23 مليون دولار)، والفيلم قام بتغيير سوق السينما في العالم العربي، وهو ما يطلق عليه «التوقيت الصحيح في الزمن الصحيح»، إضافة إلى توفيق الله وثمة عوامل كثيرة. ما تلك العوامل؟ - أنتج «صعيدي في الجامعة الأمريكية» عام 1998، خلال فترة تاق فيها الجمهور إلى التغيير، فترة كانت تشهد استمرار هيمنة جيل من الفنانين على نجومية السينما، وبينهم من بلغ الستين عاماً وما زال يؤدي أدوار الشباب، فلم يصدقهم أو يتقبلهم الجمهور، بينما أبطال «صعيدي» شباب يمكن تصديقهم وبينهم أحمد السقا وهنيدي الذي ترك أثراً طيباً لدى الجمهور منذ «إسماعيلية رايح جاي». وجاءت تركيبة الفيلم جيدة وجديدة، فضلاً على كونه يتضمن كوميديا غير مبتذلة، ما جعله قبلة للأسر المصرية التي شاهدته مع أبنائها من دون حرج. السينما النظيفة هذا يقودنا إلى مصطلح «السينما النظيفة» الذي ساد تلك الفترة، أتناصر هذا الاتجاه؟ - أرفض هذا المصطلح تماماً، فالفن هو الفن، وامتلك قناعة قوامها أن الأعمال التي يمكن أن أعبر عنها من دون أن أعري الجمهور أو حتى أجرحه، سأصنعها، لكن لا أسميها «سينما نظيفة»، فيلم مثل «بئر الحرمان» لسعاد حسني تقوم قصته على شخصية امرأة سيكوباتية تعاني الازدواجية، فهي امرأة طبيعية نهاراً، وعاهرة ليلاً، إذن تفرض الحبكة الدرامية هذا الإطار، ومشاهد بعينها، لكن لا يمكن توصيفها أنها «سينما غير نظيفة». ثمة من يقول أنك في صدد عمل جزء ثان من «صعيدي في الجامعة الأمريكية»؟ - يدفعني الفنان محمد هنيدي دفعاً إلى ذلك، لكني لم أجد الفكرة التي تدفعني لكتابته بعد، إذ ينبغي أن تأتي أكثر قوة، كي يلاقي نجاح نظيره الأول في ظل تغيّر الجمهور والمزاج العام، كما أن مصر تغيرت بعد مرور 20 عاماً، وكذلك العلاقات بين مصر والولايات المتحدة أو إسرائيل لم تعد كما كانت، لذا فالأمر ما زال قيد التفكير ولن أصنع عملاً لمجرد استثمار نجاح تحقق قبل عقدين. يأتي «مولانا» كأحدث إنتاج لشركة «العدل»، وهو الفيلم الذي أثار الجدل والهجوم قبل عرضه، ومع ذلك أقدمتم على إنتاجه؟ - لدينا الجرأة لصناعة الأعمال التي نحبها دائماً، وسبق أن أنتجنا مسلسل «الداعية» في ظل وجود جماعة الإخوان المسلمين في الحكم، ورفعت رئاسة الجمهورية آنذاك دعاوى ضد العمل، كما خاطبوا الأجهزة الأمنية والرقابة، ولكننا لم نتراجع عن إنتاجه. كتبت فيلم «الراهب» وكان مقرراً أن يقوم ببطولته هاني سلامة وتخرجه هالة خليل، لكن توقف العمل عليه، ما مصيره؟ - جاء التوقف بفعل خلاف بين هالة خليل وهاني سلامة، وحاول منتجه حسين ماهر مراراً التوفيق بينهما ولم يفلح على مدار خمس سنوات، وأخيراً توفاه الله منذ أشهر قليلة، بالتالي صار مصيره مجهولاً، وهو أمر مؤسف لا سيما أن الفيلم يناقش أفكاراً مهمة. وحاولت الوساطة بينهما كثيراً لكن من دون جدوى. متى تعود للسينما؟ - حتما سأعود يوماً، حين أجد رواجاً سينمائياً يتحمل الأفكار التي أود طرحها، فمبعث ابتعادي هو طموحي ألا أصنع عملاً بغية التواجد على الساحة السينمائية بل يتضمن أفكاراً وقضايا، ففيلم مثل «الراهب» يناقش علاقتنا بالله، ومفهوم الدين وكونه اعتزالاً للبشر أم التعايش معهم وتبادل الأفكار معهم، وعلى رغم كونه تجارياً لكنه يحتوي جانباً فلسفياً يفهمه الجمهور البسيط. هل ثمة قصة تحلم بكتابتها سينمائياً؟ - تراودني أمنيات كثيرة دائماً بينها عمل يتناول حياة «كارلوس الإرهابي» الدولي، بخاصة إنه شخصية جدلية، فبعضهم يعتبره إرهابياً فيما يراه آخرون مناضلاً.