بعد إغلاق معسكر «كاليه» الفرنسي أو «أدغال كاليه» كما يطلق عليه تهكماً وتوصيفاً لسوء أحوال اللاجئين المقيمين فيه وعزلتهم شبه التامة عن العالم، توزع عدد كبير منهم الى وجهات مختلفة. غير أن السوريين بأكثريتهم دخلوا منه الى بريطانيا بطرق غير شرعية وهناك تقدموا بطلبات الحصول على حق الإقامة الدائمة فيها. لتقصي أحوالهم ومعرفة الفرق الذي طرأ على حياتهم في انتقالهم الجديد، اقترح الوثائقي التلفزيوني الألماني «بريطانيا: بعد كاليه» مقابلة بعضهم وإجراء مقارنة بين ما هم عليه الآن وبين ما كانوا عليه في فرنسا، مستعيناً لعرض الوضع الأخير بالصور والتسجيلات القديمة ليجسد بها صعوبة عيشهم في المعسكر ومعرفة ما آلت اليه مصائرهم في بريطانيا. في موقع بناء مشروع إسكاني جديد في «بوش هاردوز ستريت»، يقابل البرنامج شاباً سورياً يعمل ب «الأسود»، لهذا طلب عدم عرض وجهه وتكفل البرنامج بمنحه اسماً من عنده خشية كشف أمره أمام دوائر الضرائب والعمل. وخلال التصوير، عرض «الخال» القادم من درعا السورية لاجئاً الى كاليه وفيها أمضى قرابة تسعة أشهر قبل توجهه الى بريطانيا، حيث يشعر الآن بالارتياح لتحسن ظروف حياته بعد حصوله على الإقامة أما عمله ب «الأسود» فيبرره بحاجته الى المال من أجل لَمّ شمل عائلته التي توزعت على مدن عدة في العالم. وعن تجربة انتقاله قال: «عشت في البداية مرحلة سيئة. دخلت بلداً لا أعرف عنه الكثير. جئت من المجهول الى المجهول ولكن مع الوقت بدأت أشعر بتحسن، أما العمل ب «الأسود» فيظل مصدر قلق لي من تعرضي للمساءلة، لكني مجبر عليه لتأمين جلب زوجتي وأولادي الى هنا». للخال أصدقاء من سورية يلتقيهم بعد انتهاء العمل في «شارع العرب» وكلهم تقريباً من مدينته القديمة. الى شارع العرب يتوجه الوثائقي ليقابل آخرين مروا بتجارب مختلفة لكن سوريتهم تجمعهم وتعارفهم على بعضهم بعضاً في «أدغال» كاليه. مشتركاتهم كثيرة وروح التعاون بينهم قوية وفق ما لاحظه البرنامج، لكنهم يعيشون على هامش المجتمع في «غيتوات» عربية، كما يقول يوسف علوش، الذي أرفق البرنامج حديثه بتسجيلات له مع مهاجرين مثله عاشوا سوية ظروفاً سيئة في فرنسا. وفي اللقطة الجديدة يبدو أكثر تفاؤلاً: «أعيش في شقة قرب بيت أخي مع بعض من أفراد عائلتي، بعد الحصول على الإقامة شرعت فوراً بالعمل في الشارع العربي، فيه أشعر بالارتياح كونه يذكرني بسورية والحياة العربية». برفقته يدخل الوثائقي التلفزيوني المنتج لمصلحة قناة «آرتي» الألمانية الفرنسية الى شقة صديقه زكريا وفيها يسجل بعض تفاصيل الحياة اليومية لمجموعة من الشباب السوريين يجدون في مقارنة وجودهم في بريطانيابفرنسا إجحافاً للأولى. «هنا لا نشعر بالغربة والناس ليسوا عنصريين. رغبتي في تعلم الإنكليزية ليست لتسهيل حصولي على فرص عمل فحسب بل للحديث مع أصدقائي البريطانيين». صورة السوري «الشاطر» يؤكدها الوثائقي ويعرض عدداً من الحالات، التي نجح أصحابها في دخول سوق العمل وإقامة مشاريع تجارية كبيرة. صحيح كلها تقريباً في مناطق للمهاجرين العرب، إلا أنها تكشف عن رغبة في تحقيق الذات وتجاوز حالة «المهاجر» السلبية. اللافت في الوثائقي انتباهه الى رغبة المقيمين السوريين الجدد في زيارة بقايا «كاليه» ومقابلة أصدقائهم القدامى، وقسم منهم لا يتردد في تقديم المساعدة لمن يحتاجها منهم وحتى توفيره إمكان المجيء الى بريطانيا. ليس كلهم طبعاً يحنون ويستريحون للعيش في «غيتوات» سورية تؤخر عملية اندماجهم، فالطالب الجامعي ثائر، قرر إكمال دراسته والانتقال من حالة «اللاجئ» الى «حالة» الطالب/ المواطن كما يؤكد «لكوني كنت طالباً للأدب الإنكليزي في حمص قررت إكمال تخصصي. عملية التسجيل في الجامعات البريطانية من دون وثائق قانونية صعبة لكني استطعت وتم قبولي». ثائر يعيش في غرفة للطلبة ويوزع وقته بين العمل والدراسة وله علاقات جيدة بالطلبة وغيرهم ويدرك أهمية الارتقاء بمستواه الأكاديمي لضمان مستوى جيد من الحياة في بريطانيا ومع ذلك لا ينسى أهله فشرع بالعمل كمتطوع لمساعدة المحتاجين من أهله في سورية وانضم الى جمعية خاصة بهم، ومع هذا يمضي معظم وقته في الدراسة وبصحبة البريطانيين لإدراكه بالتجربة أن تعبير «لاجئ» يحمل معاني سلبية في ذهن أبناء البلد ويقدم أدله حسية على ما يقوله. «حين ذهبت في بداية وصولي لتأجير شقة وذكرت لهم حالتي الاجتماعية وهي «لاجئ» تغيرت وجوه الموظفين واعتذروا عن مساعدتي ولكن بعد دخولي الجامعة وتغيير صفتي المهنية الى طالب تغير تعامل الموظفين ذواتهم معي وقبلوا إعطائي شقة أعيش فيها الآن». جولة واستقصاء أحوال السوريين القادمين من كاليه الى بريطانيا يعطيان صورة عن صعوبة أوضاع المهاجر وعدم استقراره، لكنهما يعطيان أيضاً بريقاً من الأمل في عيش الحياة الجدية ونسيان تجاربها المؤلمة.