غابت خلال السنوات الماضية الدراما الناطقة بالفصحى، والتي كانت تقدم عبر مسلسلات تاريخية ودينية وتراثية، وحقق بعضها نجاحاً لافتاً على رغم صعوبة تنفيذها وارتفاع كلفتها الإنتاجية لما تتطلبه من ديكورات تاريخية وأكسسوارات وملابس تناسب فترات زمنية قديمة، إضافة إلى أنها تتطلب ممن يتصدى لتجسيد شخصياتها تميزه في اللغة العربية وقدرته على تذوقها والنطق بها في سهولة ويسر. واللافت وجود عشرات المسلسلات التاريخية والدينية الجاهزة للتصوير بعدما حازت الموافقات والتصاريح الرقابية والخاصة بمجمع البحوث الإسلامية وغيرها. وكان قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري وأيضاً شركة «صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات» تعاقدا على تنفيذها ودفعا أموالاً لبعض مؤلفيها ومخرجيها والفنانين المرشحين لها، ومنها «شجرة الدر» (من تأليف يسري الجندي وإخراج محمد عزيزية) الذي تقاضت عنه سلاف فواخرجي، بعدما رشحت لبطولته في عام 2012، أكثر من نصف مليون جنيه من قطاع الإنتاج، ولكن توقف تنفيذ العمل منذ ذلك الوقت بداعي عدم توافر سيولة مالية في القطاع. وكان الجندي كتب مسلسلات تاريخية ودينية وتراثية كثيرة، منها «رابعة تعود» و«السيرة الهلالية» بأجزائه الثلاثة، و«الطارق» عن حياة طارق بن زياد، و«علي الزيبق» و«ألف ليلة وليلة» و«سقوط الخلافة» و«خيبر». أما المؤلف محمد أبو الخير، فأنهى قبل رحيله عام 2015 كتابة أربعة مسلسلات عن «سعيد بن المسيب» و«الطبري» و«الكواكبي» و«الجبرتي»، علماً أنه كان كتب تسعة أجزاء من المسلسل الشهير «القضاء في الإسلام» إلى جانب ثلاثة أجزاء من «المرأة في الإسلام»، ومسلسل عن حياة رفاعة الطهطاوي. وكان مقرراً تنفيذ مسلسل «ذات النطاقين» عن حياة أسماء بنت أبي بكر من تأليف الدكتور بهاء الدين إبراهيم الذي قدم مسلسلات «أبو حنيفة النعمان» و«ابن حزم» و«عصر الأئمة» و«الفتح المبين» عن حياة عقبة بن نافع، و«إمام الدعاة- الشيخ الشعراوي» و«الإمام المراغي» و«الإمام الشافعي» وغيرها. أما عايد الرباط الذي قدم مسلسلات «الليث بن سعد» و«الحسن البصري» و«الإمام الترمذي» و«الإمام البخاري» و«الإمام مسلم» و«ابن ماجة» و«الإمام النسائي» و«محمد عبده»، فكان مقرراً أن ينفذ له مسلسل «أهل الصفّة»، كما انتهى عبدالسلام أمين قبل وفاته من كتابة مسلسل عن عمر الخيام كان مقرراً أن يجسد بطولته نور الشريف الذي لعب بطولة مسلسليه عن عمر بن عبدالعزيز وهارون الرشيد وأخرجهما أحمد توفيق. وأخيراً ومع تزايد إنتاج عشرات المسلسلات بالعامية المصرية، واحتواء غالبيتها على حوارات اتهمت بالابتذال والسوقية، تعالت أصوات بعض الفنانين بضرورة تنفيذ مسلسلات بالفصحى على اعتبار أنها تمثل هوية البلاد وتحفظ تاريخها وتراثها من الضياع. وجاء في مقدمهم الفنان ياسر علي ماهر الذي قال: «أتحرق شوقاً للتمثيل بالفصحى، يا ضيعة أمة تفقد لغتها فيضيع تاريخها». وأشار إلى أن الأعمال موجودة بوفرة وأن المشكلة تكمن في المنتج. فيما تهكم الفنان مفيد عاشور على انصراف جهات الإنتاج عن تنفيذ هذه النوعية من المسلسلات، بقوله: «ولا تقربوا التمثيل باللغة العربية، لأنه لا يصح إنتاجه، ولا يجوز صنعه، لأنه وقانا الله وإياك فتنته والانزلاق فيه، رجس من عمل الشيطان وفي رواية أخرى من عمل الغَرور». وأكد وجود كثير من تلك المسلسلات المتميزة والجاهزة للتصوير، وقال: «حين كانت الدولة تنتج هذه الأعمال الرصينة ملء السمع والبصر، وللأسف فإن الممثلين القادرين على التمثيل باللغة العربية ينقرضون». وأشار الفنان فتحي الجارحي إلى أن المشكلة تكمن في تخلي الدولة عن دورها الفني والثقافي، متناسية دورها في التنوير والقضاء على التخلف والجهل، بالتالي القضاء على الإرهاب في مهده أو على الأقل تخفيض فاتورته المادية والبشرية، ولو أخذت الدولة الفن في الاعتبار لوجدت فيه مخرجاً لحل مشكلات اجتماعية واقتصادية مزمنة ولها في التاريخ عبرة». وأضاف: «البنية التحتية متوافرة من استوديوات ومناطق تصوير خلابة وطاقات بشرية مبدعة، وكل ذلك يجعل من الفن مشروعاً استثمارياً كبيراً يعزز الموازنة العامة للدولة، وينقذ لغة الضاد بل والعامية المصرية أيضاً من التراجع المهين». وقال الناقد أسامة أبو طالب: «هناك غالبية من فناني الجيل الحالي لا يرحبون بالفصحى كسلاً أو ضعفاً، علاوة على شركات الإنتاج والمخرجين وشركات الدولة بعدما فقدوا حماستهم لهذا النوع، ولا بد من أن يكون هناك حل، لأن المسألة ليست رفاهية، ذلك أن غياب الدراما بالفصحى يهدد بغياب اللغة نفسها أو تدهورها، وقد لاحت البشائر أو النذر الآن، والدولة ممثلة في مسؤولين متنورين وفنانين مثقفين غيورين على عقلها وفنونها وثقافتها وهم ليسوا بالقليل، لكنهم يعانون عزلتهم وترفعهم عن الخوض في مستنقع كبير وعميق من المدافعين عن الجهل وضيق الأفق والتطرف».