يشتهر الكاتب الأميركي بروس شناير بأنّه ناشط في الدفاع عن الحريات على الإنترنت، ومؤلّف مشهور لعدد من الكتب النقديّة في شأن عصر الشبكات، وضمنها كتاب مكرّس لتعريف الجمهور على تقنيات التشفير Encryption، وعرضها بطريقة مبسّطة وتطبيقيّة مباشرة. ويعتبر من «المشاكسين» الذين ينهضون لمواجهة هيمنة الشركات والحكومات على مجريات الأمور في الفضاء الافتراضي. وأخيراً، صدرت ترجمة لكتاب لشناير أثار لغطاً كبيراً غداة صدوره في بلاد «العم سام»، خصوصاً أنه ظهر بعد نشر الوثائق التي سرّبها خبير المعلوماتية الأميركي إدوارد سنودن في شأن التجسّس الإلكتروني الشامل ل «وكالة الأمن القومي» على دول الأرض وشعوبها. وكذلك بيّنت تواطؤ عدد من الحكومات الغربيّة في ذلك الشأن، إضافة إلى تعاون واسع أيضاً من شركات أميركيّة عملاقة في صناعة المعلوماتيّة والاتصالات أيضاً. وفي مطلع السنة الجارية، ظهرت ترجمة عربيّة للكتاب بعنوان «المعلومات وجالوت: المعارك الخفيّة لتجميع بياناتك والسيطرة على عالمك». ويلاحظ أنها تضمّنت عدداً ضافيّاً من الشروحات التي أضافها المترجم كي تساهم في تسهيل فهم الكتاب من قِبَل القارئ العادي حتى لو لم يكن متعمّقاً في الشأن المعلوماتي المعاصر أو متابعاً دقيقاً له. وربما ظهر الكتاب في لحظة ملائمة تماماً على الصعيد الدولي، إذ تصادف أنها كانت قريبة زمنيّاً من ضربة «وانا كراي» التي هزّت الأمن الإلكتروني عالميّاً، كما عزّزت المخاوف في شأن التجسّس الشامل والرقابة الموسّعة التي تمارسها «وكالة الأمن القومي» بالتواطؤ مع الشركات الكبرى في المعلوماتيّة. واستندت ضربة «وانا كراي» إلى ثغرة وجدتها تلك الوكالة في نظام «ويندوز إكس بي» Windows XP وتسرّبت بطريقة مازالت غامضة، إلى أيدي الإرهاب الإلكتروني. وزاد في قوّة «وانا كراي» أن «مايكروسوفت» لم تعد تهتم بحماية نظام «ويندوز إكس بي» لأسباب تجاريّة، وهو نموذج عن تداخل الاستخبارات وأموال الشركات وتجاراتها المتنوّعة في عوالم الشبكات المعاصرة بأنواعها كلّها. ولا يهتم كتاب «جالوت والمعلومات» بشيء مقدار اهتمامه بتبيان ذلك التداخل وتأثيره في الجمهور الواسع. وكذلك يمكن القول إن صدور الكتاب المترجَم تصادف مع لحظة مهمّة بالنسبة إلى دول الخليج العربي أيضاً، تتمثّل في الأزمة المتفجرة فصولاً بين 4 دول خليجيّة وعربيّة من جهة، وقطر من الجهة الأخرى. واستهلت الأزمة نبش تصريحات قطرية اعتبرت مسيئة خليجيّاً وعربيّاً، فيما قالت الدوحة إنها مفبركة، بل وضعت على الموقع الشبكي ل «وكالة الأنباء القطرية» بعيد تعرضه لاختراق إلكتروني. من أين القوّة لجالوت الحاضر؟ في فصول كثيرة، يهتم كتاب «جالوت والمعلومات» بشرح تفاصيل ذلك «العالم السفلي» للإنترنت الذي تسوده تجارة غامضة تتداول برامج تخريبيّة لاختراق المواقع وحسابات الأفراد في البنوك وصفحات ال «سوشال ميديا» وغيرها. ومن المستطاع بسط النقاش عن ذلك الكتاب انطلاقاً من عنوانه، بمعنى طرح سؤال عمن يكونه جالوت القرن 21. وربما صار بديهيّاً في الوقت الحاضر أن ترتبط كلمة معلومات بالكومبيوتر والإنترنت والشبكات الرقمية بأنواعها كلها، لكن من هو جالوت تلك العوالم المعقّدة؟ لماذا استدعاء صورة جالوت وأسطورته بالارتباط مع المعلوماتية وشبكات الاتصالات المتطوّرة التي باتت ترسم جزءاً كبيراً من الحياة المعاصرة، خصوصاً مع زيادة التداخل بين الافتراضي والفعلي؟ وفي الروايات الدينية، كان جالوت محارباً عملاقاً، بل طاغية جباراً امتلك قوّة كبيرة استخدمها في الهيمنة والسيطرة. ولا يتردّد بروس شنايير المعروف في الغرب بكونه صوتاً ثقافيّاً نقديّاً، في تحديد جالوت القرن 21: إنه ذلك «الكائن» الضخم المركّب من الحكومات (خصوصاً في الدول الغربية الكبرى) وأجهزتها الاستخباراتية من جهة، والشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات من الجهة الأخرى. ويبيّن شناير أنّ قوّة جالوت الحكومات- الشركات تأتي من المعلومات، وهو ما يظهر في العنوان الفرعي للكتاب الذي تنطق كلماته بوجود معارك خفيّة هدفها التجميع الدؤوب للمعلومات عن أفراد الجمهور كافة، بهدف السيطرة على حياتهم. ولعل إحدى النقاط المثيرة تماماً في الكتاب، هي قدرة شناير على أن يأخذ بيد القارئ ليعبر به تلك المتاهة المتشابكة التي تربط بين المعلومات التي تتدفق من النشاط اليومي العادي للأفراد العاديّين من جهة، والطرق الملتويّة التي تستعملها شركات المعلوماتية والاتصالات في الاتجار الواسع بتلك المعلومات اليوميّة العاديّة تماماً، من الجهة الأخرى! وفي كتابه، يقدّم شناير مثلاً عن ذلك عبر لفت النظر إلى ممارسات يوميّة شائعة في ال «سوشال ميديا». ويحضّ على التفكير في أمور معروفة للجميع، لكنها صارت مستقرة إلى حدّ أن قلّة هي التي تمعن النظر والتفكير فيها. أليس معروفاً للجميع أن «فايسبوك» يلاحق كل فرد منا في المواقع كلها عبر زر «لايك» (سواء دخلت إلى حسابك على «فايسبوك» أم لا). ويتابعك «غوغل» في كل موقع يحتوي على زر «غوغل+» (Google+) أو يستعمل أداة التحليل الإحصائي «غوغل آناليتكس» (Google Analytics)، لقياس حركة الزوار عليه»؟ كمّ مرّة فكّرنا في الإملاءات المترتبة على تلك الأمور، وهي مجرد قطرة في بحر التتبع اللصيق لحركة الأفراد على الإنترنت. عن نهم استخباري لا يرتوي أبداً يضاف إلى تجارة الشركات بالمعلومات والبيانات، ما تحقّقه المؤسّسات الاستخباراتيّة بالتوصّل إلى فرض رقابة موسعة غير مسبوقة تاريخيّاً على الأفراد والشعوب. وبرهنت الوثائق التي سرّبها سنودن على ذلك الأمر بطريقة لم تعد خافية على الجمهور الواسع. وإذا كانت الشركات تحصل على سيول المعلومات من مواقعها (كتلك المخصّصة لل «سوشال ميديا» والترفيه والألعاب الإلكترونيّة وغيرها)، تحصل الحكومات والاستخبارات على المعلومات بطرق أشد قسوة وخفاء. إذ تتدخل في تركيب الأجهزة التي يستخدمها الجمهور (نعم. بداية من الكومبيوتر ومروراً بالهواتف الذكية، وليس انتهاءً بالساعة الإلكترونية والسوار الذكي وغيرها)، فتفرض فيها مكوّنات تحوّلها أدوات تتجسّس تعمل على مدار الساعة. وكذلك تفرض الاستخبارات على الشركات إمدادها بالمعلومات عبر طرق متنوّعة، تمتد من التعاون الطوعي إلى استخدام أدوات قانونيّة وتشريعيّة متنوّعة. من أين للفرد بمقلاع داوود؟ من المآسي التي يلاحظها الكتاب أن احتماء قمع الدول بالقوانين ونصوصها، يبدو ملمحاً مشتركاً بين النظم الديموقراطية والقمعيّة على حدّ سواء، بل من الأمور التي أثارت نقاشات متشابكة عقب انكشافها في وثائق سنودن. وإذ تذكر الروايات الدينيّة أن خلاص البشر من طغيان العملاق جالوت حصل على يد داوود عندما استطاع ذلك الفتى الضئيل القامة بمقلاعه الصغير أن يصيب العملاق بحجر، فوضع حدّاً لطغيانه وسيطرته على الشعوب. إذاً، على قارئ كتاب شنايير أن يستعد لمفاجأة أولى: إنه هو (القارئ العادي، وبمعنى أيضاً أنه المستخدم العادي للانترنت والخليوي) مدعو لأن يكون داوود القرن ال21! واستطراداً، يرى شناير أن المقلاع الداووي المنشود إنما يتمثّل في انخراط الأفراد في الدفاع عن حرياتهم وخصوصيّاتهم على الشبكة، بداية من تعلّم تقنيات التشفير وتطبيقها على بياناتهم ومعلوماتهم، ووصولاً إلى خوض معارك سياسيّة وقانونيّة لحماية الحريّة والخصوصيّة في الشبكات كلّها، من الشبكة العنكبوتيّة الدوليّة إلى شبكات الاتصالات الخليويّة وغيرها. ويشدّد على أنّ ذلك المقلاع يجب أن يصيب الشركات العملاقة والحكومات سويّة، مع التشديد على أنّه لا يدعو إلى موقف سلبي من التقنيات التي تطوّرها الشركات والحكومات، بل على العكس تماماً يدعو إلى أوسع انخراط في التفاعل مع الجهتين للتوصّل إلى مجتمع يستطيع الأفراد فيه استخدام التقنيات المتطوّرة، مع حماية حريّتهم وخصوصيّاتهم.