يدعونا معرض متحف اللوفر في فرعه القائم في مدينة لانس الفرنسية، إلى رحلة شيّقة نحو جذور الموسيقى في العالم. وهو يلقي إضاءات جوهريّة ومتفرّدة على الحضارات القديمة من خلال الموسيقى في تمتماتها الأولى وما تعبّر عنه في طوايا النفس البشرية. كما يرصد الموقع الذي احتلّته الموسيقى في الماضي وما وصل من أصدائها حتى الآن. نشأت الحضارات الإنسانية الأولى في بلاد ما بين النهرين وسورية ومصر منذ آلاف السنين. وحتى اليوم، وعلى رغم الحروب والدمار الذي يطاول البشر والحجر، لا يمرّ عام إلا ويأتي اكتشاف أثري جديد ليؤكد على ريادة هذه المنطقة في الفنون والعلوم... أقيمت معارض كثيرة في متحف اللوفر، الذي يضم واحدة من أجمل المجموعات الفنية في العالم القادمة من دول الشرق الأوسط، وهي غالباً ما ركزت على فنون النحت والتصوير وعمارة المعابد وطقوس العبادة والحياة اليومية... من هنا أهمية المعرض المقام حالياً والذي يُعدّ الأول من نوعه في فرنسا لأنه يتمحور حول اختراع فن الموسيقى وكيف رافق هذا الفن البشر في حياتهم الدينية والمدنية وفي أفراحهم وأحزانهم من المهد إلى اللّحد. كذلك يبيّن المعرض التبادلات المختلفة بين ضفتي المتوسط وكيف ازدهرت الموسيقى أيضاً في الحضارتين الإغريقية والرومانية اللتين نهلتا من حضارات الشرق القديم. عنوان المعرض «موسيقى، أصداء من الماضي البعيد»، وهو يروي من خلال مجموعة رائعة من التحف التي تنتمي إلى مجموعات متحف اللوفر ومتاحف عالمية أخرى أميركية وأوروبية، حكاية اكتشاف الموسيقى القديمة مستعيناً بالآلات التي عثر عليها في المقابر الفرعونية ومعابد بلاد ما بين النهرين وبالتحف الفنية التي رسمت ونقشت عليها صور تمثل موسيقيين وموسيقيات لأن مهنة الموسيقى والعزف على الآلات المختلفة لم تكن حكراً على الرجال فقط. أما كيف ولد مشروع هذا المعرض فتخبرنا السيدة إيلين غيشار، وهي من المسؤولين عن القسم الفرعوني في اللوفر ومن المشرفين على المعرض، أنه ما بين عامي 2002 و2005 تمكنت بعثة ألمانية من العثور على ثلاث آلات موسيقية أثناء أعمال التنقيب في منطقة ذراع أبو النجا بالبرّ الغربي لمدينة الأقصر. وانطلاقاً من هذا الاكتشاف المدهش والنادر تقرر عام 2010 دراسة هذه الآلات ومن ثم إطلاق برنامج أبحاث حول التراث الموسيقي القديم في حوض المتوسط. استند البرنامج على التعاون بين بحاثة المراكز الفرنسية للآثار والموزعة بين القاهرة وأثينا وروما... ويأتي المعرض كمحصّلة لهذه الأبحاث. إنه رحلة في عالم مندثر، تعود بنا ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد وبالتحديد الى مدينة أور السومرية الواقعة جنوبالعراق حيث عثر على عدد من القيثارات هي من أقدم الآلات الموسيقية ذات الأوتار المعروفة في العالم. يكشف المعرض أيضاً أن الموسيقى في بلاد ما بين النهرين وفي مصر القديمة كانت على ارتباط وثيق بالآلهة والملوك. وفي قبور الملوك عثر على مسلات وجداريات ملونة ضمت رسوماً لموسيقيين يعزفون على آلاتهم كما في مسلة شهيرة من مجموعة اللوفر ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد وعليها رسم ملون لمغنّ يعزف على آلة موسيقية متعددة الأوتار، وهو يسجد في حضرة الإله رع الممثل بقرص الشمس لدى المصريين القدماء. من مصر إلى سورية، وبالتحديد الى مملكة أوغاريت والتي عثر على آثارها في تل رأس شمرا الواقع شمال مدينة اللاذقية وهي أثار عكست الموقع المتقدم لهذه المملكة في حضارات الشرق القديم. وكانت التنقيبات قد بدأت عام 1928 وكشفت في ما بعد عن ألواح طينية ترجع إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد وتضم أقدم مقطوعة موسيقية مدونة في العالم. ويضيء المعرض على لوح طيني يضم نص اغنية تعرف باسم «أغنية نيكال»، ونيكال هي الإلهة زوجة الإله قمر، وتبيّن الشروحات أن الأغنية تتحدث عن زواج لم يثمر أطفالاً وعن معاناة نيكال بسبب العقم. وكانت قد جرت في مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي محاولات عدة لعزف موسيقى هذه الأغنية التي تجسّدت أخيراً ويمكن الاستماع إليها في المعرض. مهد الحضارات هو أيضاً مهد الموسيقى ومسقط رأس الإيقاع الأول الذي لا تزال أصداؤه تتردد حتى يومنا هذا.