فرنسا مفتونة بالحضارة المصرية القديمة، فلا يمرّ عام إلاّ يقام في متاحفها معرض استثنائي يكشف عن وجوه جديدة لتلك الحضارة. آخر هذه المعارض يقام حالياً في «قصر الفنون» في مدينة ليل الشمالية تحت عنوان «سنوسرت الثالث، الفرعون الأسطورة». والمعرض هو الأول من نوعه في فرنسا لأنه مخصص بكامله لهذا الفرعون الذي حكم ما بين 1872 و1854 قبل الميلاد ويعتبره المؤرّخون من أعظم حكام مصر القديمة لارتباط حكمه بعدد كبير من المنجزات الفنية والمعمارية والعسكرية، وكذلك بالإصلاحات الإدارية والسياسية. يضم المعرض نحو 300 قطعة فنية استُقدمت من متاحف عدة منها متحف القاهرة واللوفر والمتحف البريطاني والمتحف الوطني اللبناني... ويقام المعرض الجديد بالتعاون والتنسيق بين «قصر الفنون» في مدينة ليل ومتحف اللوفر في باريس الذي يملك أكبر مجموعة فرعونية في العالم بعد متحف القاهرة. لا يتمتع سنوسرت الثالث بالشهرة التي يتمتع بها اخناتون أو توت عنخ آمون أو رمسيس الثاني، إلا أن هناك إجماعاً على الدور الأساسي الذي اضطلع به في الألف الثاني قبل الميلاد في جعل مصر دولة عظمى ومستقرة قائمة على إدارة قوية ومنظّمة. كما أنه كان قائداً عسكرياً، وقد شهدت الدولة في عهده توسعاً امتدّ شمالاً وجنوباً، كما تبيّن الآثار الفرعونية التي عثر عليها في النوبة والسودان وفلسطين وجبيل في لبنان. يسعى المعرض الى تعريف الزوّار بالجوانب المختلفة لمرحلة حكم سنوسرت الثالث معتمداً على تحف متنوعة، منها أولاً المنحوتات الحجرية التي يحضر فيها الفرعون بكل جبروته، وفيها تتجلى أيضاً ملامح التجديد الفني الذي ميّز هذه المرحلة والتي تجسدت في أسلوب نحت الوجوه والأجساد بأسلوب خاص لم نعرفه في العصور السابقة. هناك أيضاً منحوتات للنخبة الحاكمة التي اعتمد عليها الفرعون في إدارته للبلاد والتي مثّلت صعود طبقة اجتماعية جديدة أُوكلت إليها إدارة الدولة بعد تحقيق الإصلاحات التي سمحت للفرعون ببسط سلطته المطلقة وحماية حدوده من الغزوات الخارجية ومن حركات التمرّد، إضافة الى إقامة علاقات تجارية وديبلوماسية وثيقة مع جيرانه ومنها على وجه الخصوص مع قبرص والمدن الفينيقية. ولإظهار هذه العلاقة المميزة مع المدن الفينيقية، وبالأخص جبيل، أعار «المتحف الوطني اللبناني» أربعاً وعشرين تحفة من هذه المرحلة، ومنها تمثال للفرعون سنوسرت مصنوع من حجر الغرانيت، ومرآة من الذهب والفضة، وتماثيل صغيرة من الفخار وعقد رائع عثر عليه عام 1922 في المقبرة الملكية في المدينة. وتكشف الدراسات الأثرية أنّ التبادلات التجارية بين مصر الفرعونية وجبيل كانت متنوعة وتشتمل على خشب الأرز والزيوت، بخاصة أن المصريين كانوا في حاجة الى الخشب لبناء معابدهم وسفنهم ولاستعماله في طقوسهم الدينية والجنائزية. مقابل الخشب، كانت جبيل تحصل على الحلي والمنحوتات المصرية والأقمشة المصنوعة من الكتان وورق البردى. ولا بد من الإشارة الى التنقيبات التي قام بها الباحث بيار مونتي في جبيل بين عام 1921 وعام 1924 وأدت الى العثور على المقبرة الملكية وعلى آثار تشهد على مدى تأثير الثقافة الفرعونية في المدن الفينيقية، وقد طاولت الأزياء والكتابة ومراسم الدفن... تميزت الحضارة المصرية القديمة منذ نشأتها بعلاقتها الفريدة بالموت وطقوسه، وكان للفراعنة باستمرار هاجس الخلود. واستمر هذا الاهتمام في زمن الفرعون سنوسرت الثالث فشيدت في عهده المدافن والأهرام ومنها، كما يبيّن المعرض، هرم في دهشور، وهي قرية تقع في محافظة الجيزة. كذلك شيدت مقبرة في مدينة أبيدوس التي تقع في مصر العليا في محافظة سوهاج... وتكشف المعروضات مدى انتشار عبادة أوزيريس في ذلك العصر بشكل لم تعرفه الحضارة الفرعونية من قبل، وقد أدى ذلك الى ظهور أشكال جديدة من الطقوس الدينية انعكست على الفنون والعمارة وانتشرت في كل الأراضي المصرية. معرض «سنوسرت الثالث، الفرعون الأسطورة» في «قصر الفنون» في مدينة «ليل» شهادة جديدة على حضارة عريقة كانت فيها الفنون على علاقة وثيقة بالسلطة السياسية. ويبيّن المعرض أنّ ثبات الدولة وازدهارها في عهد سنوسرت الثالث سمحا بانتعاش الفنون والعمارة، ومنها المدافن التي عثر فيها على أبرز التحف التي تطالعنا في المعرض. وما يميز نتاج هذه المرحلة، هو طابعه الإنساني وتماثله مع الواقع، وتجلى ذلك في المنحوتات التي جسدت الفرعون وفي التماثيل الصغيرة التي استعادت مشاهد من الحياة اليومية، ومنها مشاهد الزراعة والصيد والملاحة.