رفع مثقفو الإسكندرية «الراية البيضاء» مجدداً، إذ تداول نشطاء على موقع التواصل الاجتماعي صوراً تؤكد هدم فيلا «أمبرون» التي سكنها الروائي الإنكليزي لورنس داريل (1912-1990) صاحب «رباعية الإسكندرية» الروائية. وتعيد الواقعة إلى الأذهان وقائع المسلسل التلفزيوني الشهير «الراية البيضاء» الذي كتبه الراحل أسامة أنور عكاشة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وصور نجاح امرأة ثرية في هدم فيلا الديبلوماسي المثقف مفيد أبو الغار على رغم ندرة طرازها المعماري. وعبّر مثقفون إسكندريون ل «الحياة» عن انزعاجهم من تجاهل الدولة مئات المناشدات للحفاظ على التراث المعماري لمدينتهم. أقام داريل في فيلا «أمبرون» التي تحمل الرقم 19 في شارع المأمون (حي محرم بك) اعتباراً من عام 1943، بعد فراره من اليونان التي احتلها النازيون. عاش في الطابق العلوي من الفيلا مع زوجته السكندرية إيف كوهين، وفيها كتب رباعيته الروائية الشهيرة التي ترجمها إلى العربية فخري لبيب وتصور الإسكندرية المتعددة الأعراق خلال الحقبة الاستعمارية. والرباعية التي تقوم على تعدّد النظرة إلى الحدث نفسه وفق كل من أبطالها الذين تحمل كل رواية من الروايات الأربع اسم واحد منهم: «جوستين»، «بلتازار»، ماونت أويف»، «كليا»، وضعت داريل في مصاف مطوّري الرواية الإنكليزية الحديثة. وأكد عضو البرلمان عن الإسكندرية هيثم الحريري صحة واقعة الهدم وقال ل «الحياة»: «تواصلنا مع المحافظ وعرفنا أن الهدم يأتي تنفيذاً لحكم قضائي»، متوقعاً المصير ذاته للكثير من المباني التاريخية المماثلة، «لأن الدولة ليست لديها خطة لصيانة هذه المباني أو الحفاظ عليها وتعويض أصحابها وتقديم خطط بديلة». وتحدّث مدير «تياترو الإسكندرية» الفنان محمود أبو دومة عن وقائع مماثلة شهدتها المدينة «تعكس خطة ممنهجة لمحو ذاكرة تُعلي قيمة التنوع والتسامح، وترسّخ قيماً بديلة تفقد بلداً عريقاً هويته الحضارية». في حين ذكِّر الروائي إبراهيم عبد المجيد ببيت شعر للشاعر اليوناني السكندري قسطنطين كفافيس: «وداعاً للإسكندرية التي تعرفها الآن»، مؤكداً أنه لم يعد قادراً على السير في مدينته «التي تغيرت تماماً». وقال صاحب رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية»: «الهدم كان متوقعاً بما أن الدولة غير مهتمة بالتاريخ، وتعتبر الثقافة كلاماً فارغاً، فيما تَنازع جهات الاختصاص يسهل الهدم ويمنحه شرعية». وتتصدّر الإسكندرية الآن قوائم المدن المصرية التي ترتكب فيها مخالفات لقانون البناء، وخلال الشهور الماضية فقدت الكثير من المباني التراثية، ومنها فيلا الأخوين سليم وبشارة تقلا مؤسسي جريدة «الأهرام»، وفندق «ماجستيك»، وفيلا «أغيون» التي شيدها المعماري البلجيكي أوغست بيريت، وكانت مسجلة في قائمة «يونيسكو» للتراث العالمي. وأشار الدكتور محمد عوض، مدير مركز دراسات البحر المتوسط، التابع لمكتبة الإسكندرية والملقب ب «حارس تراث الإسكندرية»، إلى أن فيلا أمبرون كانت ملكاً لمهندس معماري إيطالي هو ألدو أمبرون، وكانت ملجأ للكتاب والفنانين الفارين من النازية، كما كانت ملجأ للملك الإيطالي عمانويل الثالث ونظَّم صاحبها منتدى ثقافياً شهيراً انتظم في حضوره الكثير من وجهاء الإسكندرية ومنهم الفنانة التشكيلية عفت ناجي. وبعد عام واحد من وفاة داريل انتقلت ملكية العقار عام 1991، إلى مقاولَين إسكندريَين، أزالا حديقة الفيلا والمباني الملحقة بها والتي كانت عبارة عن استوديوات يستخدمها رسامون ونحاتون، لبناء عمارتين سكنيتين. واستصدر الأخوان عبدالعزيز قراراً من المحكمة الإدارية قبل عامين بإزالة مبنى الفيلا ذاته. وكشف عوض أن لجنة الحفاظ على المباني التراثية والمعمارية أحصت أكثر من ألف مبنى في الإسكندرية من طراز معماري مميز، ارتبط بعضها بشخصيات تاريخية، لكن 58 مبنى منها تم استصدار قرارات بهدمها عبر ثغرات في قانون المباني الرقم 144 لعام 2006. وترى أستاذة العمارة في جامعة الإسكندرية الدكتورة عائشة الخولي أن مسلسل «الراية البيضا» سيستمر ما دامت الدولة غير معنية بالموضوع، لافتة إلى أن مالكي المباني التاريخية يستغلون ثغرات قانونية تمكنهم من استصدار أحكام من المحكمة الإدارية تقضي برفع المباني من قائمة المباني ذات القيمة التراثية ثم هدمها.