قبل أيام فاز الفيلم المصري «يوم للستات» للمخرجة كاملة أبو ذكري، بالجائزة الكبرى في مهرجان السينما الأفريقية في المغرب، كما فازت بطلته ومنتجته إلهام شاهين بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كازان، مناصفة مع زميلتها نيللي كريم. وسبق للفيلم أن عُرض في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الماضية ونالت بطلته الثالثة ناهد السباعي جائزة أفضل ممثلة. ولا يمكن قراءة الفيلم من دون استعادة تجربة أبوذكري وشاهين في «واحد/ صفر» الذي كتبته مريم نعوم ودارت أحداثه العام 2008 حول نهائي أمم أفريقيا بين مصر والكاميرون، وانعكاسه على نماذج من الشعب المصري. هذه المرة استعانت كاملة أبو ذكري بالكاتبة هناء عطية، وبدأت سردها من آذار (مارس) 2009، واستبدلت بحدث المباراة، إنشاء حمام سباحة في مركز الشباب في حي شعبي، وتخصيص «يوم للستات»، بما يسمح بمتابعة نماذج من قاع المجتمع تلك المرة، وإن ظل الفيلم الأول أكثر تميزاً. الحوض والحارة توزع الفيلم على فضاءين: «حوض السباحة» كعلامة ثورية، ومصدر للبهجة والتحرر الموقت من سطوة وقهر الرجل. مقابل «الحارة» وبؤسها وما يدور فيها من قصص معتادة. وتأرجح السرد بين الفضاءين على نحو أفقي رتيب، مشاهد معُتنى بها تدور في حمام السباحة، وأخرى مفتعلة وباردة لا تختلف عن أي مسلسل، تدور في الحارة، وتمثل عبئاً على الإيقاع. ومنها، يعثر شباب طائشون على سروال نسائي ويحظى بتعليقات شتى في مشهد لطيف وكاشف ضمن عالم حمام السباحة، ثم يُعاد تقديمه بافتعال حين يقوم هؤلاء بزفة للسروال وسط الحارة، بل يقوم أحدهم بارتدائه! كما نرى شامية (إلهام شاهين) في حالة سكر تؤدي «مونولوجاً» مؤثراً في حضور صديقتها عن وحدتها ومهنتها وعلاقتها بالرسامين وقصة حبها... ثم يُستعاد المشهد بالتكنيك والكلام ذاته تقريباً في حوض السباحة وسط النساء. ألا يغني أحد المشهدين عن الآخر؟! وأهدرت الكاتبة والمخرجة فرصة ذهبية لاكتشاف عالم النساء، عبر علاقتهن بحوض السباحة ورهبة الماء، وخزينة الملابس، والعجز عن العوم بمفردهن، وإمكانية أن يستحضر الرجال من غياب، من دون مغادرة هذا الفضاء المحكم الشاهد على تحولاتهن. بالعكس ثمة ارتباك في تجسيد هذا العالم، فأحياناً تظهرهن الكاميرا كسباحات بارعات، وأحياناً أخرى لا تبدو أن علاقتهن بالفضاء «الثوري» ساعدتهن في تغيير حياتهن على نحو أفضل، فظلت سلوكياتهن كما هي. هذا الارتباك انعكس على ارتباك نهاية الفيلم أيضاً. تقنياً، ثمة اجتهاد في تصوير مناظر خلابة ولقطات في الماء بالتصوير البطيء مفعمة بالرقة، للمصور بيشوي روزفلت ومديرة التصوير نانسي عبدالفتاح، مع الاهتمام بالأصفر كقيمة لونية وضوئية تجسد بؤس الحارة، في مقابل «الأزرق» للدلالة على حمام السباحة وأجواء البهجة... مع ذلك فإن هذه المشهدية كانت جميلة في ذاتها، أكثر منها استجابة درامية. وبينها مشهد غرق ليلى (نيللي كريم) وهي تتذكر طفلها، وكأنهما يلتقيان بمحبة تحت الماء، أبعد ما يكون عن عنف لحظة الغرق، وقسوة اللقطة المستدعاة لطفلها الغريق. لكن هذا المشهد مرّ مثل مشاهد كثيرة، بلا توتر، مفتقراً إلى «الدرامية» لمصلحة جمال الصورة. الكلام نفسه ينطبق على موسيقى تامر كروان بوترياتها الناعمة الجياشة، والمبالغ في توظيفها إلى درجة أنها بدت مسموعة وعالية ولا علاقة لها بالمشهد. لم تبد الحارة بلحمها ودمها بل كما لو كانت صورة «مزخرفة» عنها، أقرب للنموذج الاستشراقي، أو «كارت بوستال» متعالٍ ومغلف بعناية. ثلاث قصص عبر الحارة كمصدر للشقاء، وحوض السباحة كمصدر للبهجة، تجري قصص ثلاث بطلات، الأولى: ليلى (نيللي كريم) التي تدير محلاً صغيراً لتجارة العطور، وتعاني حالة اكتئاب بعد غرق طفلها وزوجها في حادث العبارة الشهير، ويسكن معها والدها (فاروق الفيشاوي) وأخوها المتشدد دينياً (أحمد الفيشاوي).وبحكم شراكة المخرجة مع نيللي، سينمائياً وتلفزيونياً، جعلتها محور الارتكاز، لكن الشخصية نفسها ليس لديها ما تقوله، إذ عاودت نيللي الظهور بانفعال ثابت وكل ما تكرره مشاهدها أنها «مكتبئة»، إلى أن عرف السبب! الثانية عزة (ناهد السباعي) «بلهاء الحارة»، تجري مع أطفال ليسوا في سنها، وتعيش مع جدة عجوز، على مساعدات الآخرين. وهو دور نمطي حول طمع البعض فيها واستغلال سذاجتها. أما الثالثة شامية فمهنتها «موديل» للرسامين منذ صباها، ورثتها عن أمها، تجاوزت الخمسين دون زواج لكنها تحتفظ بقلبها لجارها أحمد (محمود حميدة) الذي تزوج بأخرى إرضاءً لوالده وسافر إلى الخليج قبل أن يعود كهلاً. ولا تتورع الحارة عن الطعن في سمعتها على رغم إصرارها على الاحتفاظ بعذريتها، والاكتفاء بهوسها بعبدالحليم حافظ، إضافة إلى الشرب والتدخين. وكان دورها الوحيد الذي حمل بذرة الطرافة والصراعات الداخلية والخارجية، الحسية والرومانسية، واجتهدت شاهين في تقديمه. في المقابل جاءت الأدوار الرجالية أكثر تنميطاً، وأقل من أسماء أصحابها، فلو حذف دور فاروق الفيشاوي كأب متصابٍ وعابث، لن يتغير الكثير، حتى ابنه المتزمت لا يقدم أي جديد، الصورة النمطية ذاتها التي استهلكها أحمد الفيشاوي في أعمال أخرى، حيث اتسمت علاقته بأبيه بالفجاجة والميلودرامية إلى درجة أن يطلب الأب من ابنه أمام أهل الحارة أن يضربه! وفجأة يختفي الابن عقب فشله في نيل رغبته من «البلهاء». فالفيلم المتعاطف مع كل نماذجه رغم فشلها وعيوبها، لم يقدم ذرة تعاطف مع «المتشدد» كضحية أب ومجتمع أيضاً! ولم يكن بهجت (إياد نصار) مقنعاً كمشرف على حوض السباحة، وبدا دوره قابلاً للحذف مع تطوير شخصية المشرفة النسائية (هالة صدقي). فيما حظيت شخصية محمود حميدة بقدر من الاهتمام على مستوى الكتابة والمشاهد والأداء. ولعل أكثر ما يعيب شخصيات الفيلم أنها في معظم مشاهدها تقدم اجترارات لذكريات، سرد فاتر وتعريف للذات، ولا تظهر في بناء محكم كاشف للصراعات والمواجهات، فالجميع «يحكي عن» بدلاً من أن نراه وهو «يفعل»، بما يفتح أفقاً للتوقع، والتوتر الدرامي. وعلى رغم محاولة إنجاز مقاربة نسوية، أو التسلل إلى خفايا عالم المرأة، إلا أن الطرح النسوي بدا ملفقاً ومزيفاً، ف -شامية- التي دمرها حبها لأحمد وجدت سعادتها باستعادته في النهاية، ولو في علاقة محرمة! وليلى تجاوزت اكتئابها باستئناف قصة حب قديمة مع بهجت، حتى عزة، استردت روحها مع حبيبها الميكانيكي (أحمد داود)، ثنائيات حب مستهلكة ومكررة في السينما التجارية المصرية، ولا تنطوي على أي تمرد نسوي جاد، أو قدرة على إدراك الذات عبر الاستقلال والحرية. فالرجل الذي دمرها وقهرها، هو نفسه الذي بيده - وحده - إسعادها ومنحها «قيمة» في الحياة.