لم تقدم بعد أية دولة عربية على المبادرة الذاتية بالإصلاح السياسي، وتصر الأنظمة كلها حتى اللحظة أنها ليست في حاجة إلى المراجعة. ولكن هناك حالة مفزعة (وإن كانت ليست مفزعة أكثر من النموذج الليبي بالطبع، فقد أوردنا العقيد إلى حالة من الذهول لا يمكن استيعابها أو تصديقها) وهي تكرار ردود الأفعال والمواجهات مع الأحداث الجارية من دون ملاحظة فشلها، بل ومساهمتها في تصعيد الأزمة إلى مدى أبعد. في الأردن يقتحم «بلطجية» مجهولون التظاهرات يضربون المتظاهرين، وهم يهتفون بحياة جلالة الملك، ثم تتبرأ الحكومة والأجهزة الأمنية وتعد بالتحقيق، وينشط موظفون ومروجون في حملات إعلامية مؤيدة للملك، تحشد العشائر والمؤيدين، وتبالغ في نشر الأخبار وإعلان الولاء والاحتفالات، وتنظم زيارات ولقاءات مع الناس، ولا يرغب أحد في التساؤل إن كانت هذه الأعمال تزيد من الأزمة أم تسكتها! فالتظاهرات الشعبية تطالب بالإصلاح، وتبدي بوضوح أنها ليست ضد النظام السياسي. لكن الرد على تظاهرات تطالب بالإصلاح والعدالة الاجتماعية بتظاهرات تهتف للملك، ومهاجمة المتظاهرين بمجموعة تظهر الولاء للملك، هو أسوأ ما يمكن أن يفعله النظام السياسي ضد نفسه، ولا يختلف ما يفعله عدو للدولة والنظام السياسي والأردن والأردنيين عما يفعله أصدقاء ومؤيدون يجمعون المؤيدين ويحشدون الكتاب والعشائر في مواجهة مطالب اقتصادية واجتماعية. صحيح أن إساءات وتعديات وقعت، ولكن الرد عليها كان أشبه بإطلاق النار على الذات. من العدو ومن الصديق اليوم؟ يبدو أن السؤال على بساطته وبداهته مربك لنا اليوم، ولكن السؤال على رغم بساطته يفترض أن يعيد النظر في السياسات والروايات والأفكار الجامعة للمواطنين. فالمعارضة السياسية لم تعد عدواً، وعندما أضعفت وهمشت، وفي موجة التمكين للشركات ومدعي الاستثمار، صار العدو هو المجتمعات والناس «الغلابة»، ولكن الحقيقة التي تدركها نخب طفيلية تحظى بمكاسب هائلة وغير مشروعة من خيرات البلاد وبغطاء وحماية سياسية أنها أصبحت عدو الناس والنظام السياسي أيضاً، وهي تهرب من لحظة قادمة (حتمية على الأرجح) ولكنها تحاول في الوقت الضائع خلق أعداء جدد. وهكذا أصبح الصراع اليوم يبدو دفاعاً عن مجاهيل ونكرات يتبوأون المناصب والوظائف العامة وبمزايا ومكاسب خرافية، ودفاعاً عن مزايا وتسهيلات واحتكارات لأفراد وشركات وغرباء، وعن تشريعات جائرة وضعت لمصلحة فئة محدودة ومعزولة. المعارضة والمجتمعات لا تريد سوى الإصلاح، فلماذا يزج بالدولة إلى موضع تعتقد المعارضة والمجتمعات أنه ليس موقعها، فلا مصلحة للدولة والنظام السياسي في عدم الإصلاح ووقف التجاوزات والمظالم والفساد، ولا أحد يريد ذلك، لماذا يريد البعض حشر التاريخ السياسي للدولة والنظام السياسي في التحالف مع فنادق واحتكارات وعقارات وأسهم؟ لماذا يريدون بإصرار أن يستدرجوا الناس ويجروهم رغم أنوفهم وإرادتهم إلى عداء الدولة والنظام السياسي؟ لماذا يريدون تحويل المعارضة السلمية والعمل الإصلاحي إلى عداء وكراهية وانقسام وفتن وشجارات؟ المسألة ببساطة هي أن الولاء السياسي والشخصي كان (وما زال) سلعة يمكن احتكارها كما يحتكر توزيع وتوريد السلع والخدمات، وهكذا فإن التحولات تبدو في نظر هؤلاء (الأولياء) ضياعاً للموارد والاحتكارات والاستثمارات. سأعرض النموذج الأردني لملاحظة كيف استجابت الحكومات والمجتمعات والشركات للحالة المتشكلة اليوم. وأعتقد أنه نموذج قابل للتعميم. فبالنظر إلى الأحداث والسياسات والقرارات والأفكار والتوجهات الجديدة للحكومة والنواب والأعيان ووسائل الإعلام والمجتمعات والشركات منذ بدأت الاحتجاجات والتظاهرات، ثم التحولات الكبرى في تونس ومصر، وربما ليبيا، يمكن ملاحظة الرغبة الواعية والإصرار على حرف الأزمة عن همومها الاقتصادية والاجتماعية، وتحويلها إلى قصة تستسخف العقول، وكأن المديونية والفساد وانهيار الخدمات العامة الأساسية والبطالة والديموقراطية والحريات وكل المطالب والقضايا الأساسية متصلة بالتطبيع والرقص والنوادي الليلية. الحكومة أيضاً لم تقدم مبادرة حقيقية وواضحة للمراجعة والإصلاح، وتريد ان تفهمنا الأزمة وكأنها حول أسعار المواد الأساسية، من دون ملاحظة للسياسات والتشريعات الضريبية، ومن دون مساس حتى الآن بحجم الشللية والقرابية والفساد في التعيينات والاختيار للوظائف العليا والعادية، ومن دون مراجعة عمليات توزيع الإنفاق والموارد، وآليات توزيع المكاسب والمنافع، ومن دون بيان واضح ومحدد للموارد العامة وتوزيعها، أو اقتراب من كيفية توزيع العطاءات والتوريدات، ومنافع المقاولين وكيف يجري الاختيار والمنح والعطاء والحرمان والاستبعاد. والشركات لم تقدم مبادرة للمسؤولية الاجتماعية أو الشراكة في الاستثمار مع المجتمعات. هذا الإصرار على الحلول الإعلامية للأزمات والتحديات الكبرى ليس أكثر من إهانة واستفزاز للمواطنين، فتصحيح الخلل بين إدارة الموارد العامة والاحتياجات والأولويات الحقيقية وعدالة التوزيع لا علاقة له بإطلاق سراح الدقامسة أو إغلاق الملاهي الليلية او تعديل عقوبة الزنا، ولم يعد ممكناً استيعاب موجة المطالبة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي بمعارك وقضايا جانبية وحملات إعلامية واستعراضات بانورامية، وأعتقد أن الحكومات تعمل ضد نفسها بتجاهلها المطالب والقضايا الحقيقية وانشغالها وإشغالها الناس بحصاد الهشيم، والمجتمعات والأحزاب أيضاً تعمل ضد نفسها إذا رأت الموجة القائمة فرصة لمطالب واستعراضات بعيدة من القضية الأساسية التي يتجمع حولها الناس اليوم. فالناس تتطلع اليوم إلى تنظيم الموارد والضرائب والفرص على أساس عادل، والارتقاء بالخدمات العامة، وهي قضية يجب أن تفهمها بجدية وصدق النقابات المهنية والأحزاب والشخصيات والشركات والحكومات، فلا تقدم النقابات بمهرجان «حق العودة» للمتطلعين نحو الحرية والعدالة الاجتماعية سوى الأفيون والوهم، وأولى بها أن تنشغل بالعمل والضمان الاجتماعي والضرائب والتأمين الصحي للمجتمعات والبلاد وليس لمنتسبيها فقط على حساب المصالح العامة والمجتمعية، والحكومة تضيع وقتها إن لم تراجع فوراً جميع التعيينات في السفارات والوظائف العليا والعامة، وتراجع العقود والعطاءات والتوريدات وعمليات البيع والخصخصة، والمؤسسات المستقلة، وتوزيع الموارد العامة والإنفاق، وقوانين وأنظمة الضرائب مهما كان الثمن. وبعد ذلك فإن قضية اطلاق سراح الدقامسة (الجندي الذي قتل سبع طفلات إسرائيليات عام 1996) مسألة موكولة إلى القضاء، ليست أكثر من قضية جنائية، وأولى بوزير العدل أن يشتغل باستقلالية القضاء وعدالته، وإصلاح القوانين الموقتة التي حولت السلطة التنفيذية إلى قضائية أيضاً. وليس مستبعداً في ظل هذه السوق القائمة اليوم للمزايدة والمراوغة والهروب من الاستحقاق الإصلاحي أن نشهد دعوات لمحاربة إسرائيل وتدميرها، وفتاوى «حلمنتيشية» وفتناً طائفية وجهوية. ثم وبعد فوات الأوان ندرك (نحن ندرك من قبل ولا نريد ذلك) أننا نلعب في الوقت الضائع، ولا مناص من مواجهة الاستحقاق الإصلاحي. القضية ببساطة هي الإصلاح والعدالة، وليس سوى ذلك، ليست حروباً دينية، ولا هي للتحرير ولا الوحدة العربية ولا تحرير فلسطين ولا تطبيق الشريعة، ولا علاقة لها بأفغانستان أو العراق أو كشمير. * كاتب أردني