لم تكن المرة الأولى التي يحقق فيها الفريد هتشكوك فيلماً مقتبساً عن مسرحية. غير ان «المشكلة» التي كانت تواجهه هذه المرة، كانت في أن المسرحية كلها تدور في مكان واحد وخلال زمن محدد، وبين شخصيات قليلة لا تتبدل. وحتى ولو كان العمل ككل قائماً على فعل ما، فإن محدوديته ومن ثم السجال الذي يدور أمامنا من حوله يعطيانه بعداً من المؤكد أنه لن يكون بعداً بصرياً من النوع الذي يفضله هتشكوك. فما العمل؟ كعادته هنا، لجأ هتشكوك الى ابتكاراته التقنية التي لم يكن خياله ليتوقف عن ارتيادها وضمها الى قاموسه الفني: قرر أن يكون الفيلم، الذي سيحققه بالتأكيد عن تلك المسرحية، مأثرة تقنية جديدة على عالم السينما. وهكذا في الوقت الذي يقدم فيه موضوعاً فتنه، يمكنه أن يجتذب متفرجيه بتلك البراعة التقليدية. ونحن هنا في عام 1948، حين كانت التقنيات السينمائية لا تزال محدودة، ولكن هل كان ثمة من شيء يمكنه أن يحدّ من مخيلة الفريد هتشكوك؟ أما الفيلم الذي نتحدث عنه فهو «الحبل» الذي أنجزه هتشكوك في ذلك العام والذي يتألف طوله الزمني البالغ أكثر من 80 دقيقة على لقطة واحدة. أجل بدا الفيلم كله لقطة واحدة من أوله الى آخره. وفي لغة السينما، معروف ان اللقطة هي تلك الصورة السينمائية المتواصلة التي تصورها الكاميرا من دون أي توقف. أما المشهد فإنه، كلاسيكياً، يتألف من مجموع اللقطات التي تصور في مكان وزمان واحد... وأما الفيلم فهو مجموع تلك المشاهد وقد رُكبت الى بعضها بعضاً. فماذا لدينا هنا في «الحبل»؟ لدينا، كما نعرف الآن، فيلم من لقطة واحدة متواصلة. وطبعاً قبل الحديث عن شؤون هذا الفيلم الأخرى، قد يكون من المفيد أن نوضح أن مثل هذا «الانجاز» التقني إذا كان اليوم يعتبر أمراً عادياً بفضل التقنيات الحديثة ولا سيما كاميرا الديجتال التي لا تجد نفسها محدودة بشريط السيليويد، فإنه في زمن تحقيق «الحبل»، كان من المعروف أنه لا يمكن أي لقطة أن تزيد، زمنياً، عن 10 دقائق، هي الزمن الذي يمكن أن تحمله بكرة الفيلم الخام. فكيف تجاوز هتشكوك هذا الواقع التقني الذي لا مهرب منه؟ ببساطة هو لم يصور الفيلم في لقطة واحدة ولا في زمن واحد، بل صوره على شكل قطع تتألف كل منها من عشر دقائق متواصلة، لكنه حرص على أن تبدأ كل لقطة وتنتهي عند شيء ما، غامق اللون، جامد الحركة: جدار، مكتبة، ظهر سترة يرتديها شخص في الفيلم، باب... بحيث حين تركب هذه «اللقطات» متتالية، يبدو الفيلم منساقاً في تلك اللقطة الواحدة المتواصلة. لقد نجح هتشكوك في ابتكاره هذا، الى درجة أن كثراً قلدوه، لاحقاً، وليس فقط لأسباب تحدها التقنيات، فمثلاً قبل سنوات قليلة حقق الروسي الكسندر سوكوروف فيلماً عنوانه «السفينة الروسية» بدا كله لقطة واحدة، صورت داخل طوابق وقاعات متحف «الارميتاج» في لينينغراد، حيث في كل طابق وقاعة مشهد تمثيلي كامل ينتمي الى تواريخ متفرقة. بدا الفيلم لقطة واحدة، لكنه صور في لقطات عدة، ليس بسبب ضغط تقني وإنما لأنه كان من المستحيل الاشتغال على كل المشاهد التاريخية، إعداداً وإخراجاً، في سياق واحد. المهم، ان هتشكوك نجح في رهانه، الى درجة ان «الحبل» لا يزال يثير الدهشة والاعجاب حتى اليوم. ومع هذا، لا بد من أن نقول ان هتشكوك نفسه لم يبد لاحقاً أي تعاطف مع فيلمه، بل انه غالباً ما كان يصفه بأنه «فيلم أحمق» متذكراً كل ذلك «الهراء التقني» الذي استغرق «مني وقتاً كان عليّ أن أنفقه في اظهار مضمون الفيلم وبعده الفكري والفلسفي»، فإذا بالجهود التقنية «تضيّع هذا كله». لكن هتشكوك لم يكن محقاً في هذا الحكم. ذلك ان فيلم «الحبل» هو، من ناحية ما، عمل ابداعي ينطلق من سؤال شائك طرحه، في زمنه، كثر من المفكرين والأدباء، وعلى رأسهم دوستويفسكي وإدغار آلن بو - على حد تعبير الباحث الفرنسي نويل سيمسولو -. وهذا السؤال هو، بكل بساطة: هل يحق لإنسان متفوق نخبوي، أن يقتل شخصاً ما، انطلاقاً من تفوقه الفكري عليه؟ ونحن نعرف أن جواباً واضحاً عن هذا السؤال، هو الذي يمكننا، مثلاً، من تحديد ما إذا كان المجيب فاشياً أو غير فاشي. ذلك أن هتلر وأسلافه وخلفاءه، رأوا دائماً أن «المتفوق» هو الوحيد الذي له الحق في العيش، وحرية التصرف في حياة الآخرين، سواء أكان هؤلاء الآخرون، أفراداً أم أعراقاً أم جماعات بشرية. ناهيك بأن الفيلم نفسه يطرح المسألة الجانبية الأخرى النابعة من المسألة الأولى:... هل يحق لهذا المتفوق، إذ يمثل العقل لتفوقه، أن يستخدم كائناً مثله - انما أقل تفوقاً - فيعتبره اليد المنفذة القائمة بعملية القتل نفسها؟ ان هذا السؤال القديم، طرح في الآداب والفنون وفي السجالات الإيديولوجية أيضاً، ولن نعدم ذكراً أساسياً له في أعمال سينمائية مثل «عيادة الدكتور كاليغاري» أو «متروبوليس»، والعملان ينتميان الى السينما التعبيرية الألمانية التي استبقت ظهور نازية هتلر، فجاء الأول ليدين الفكرة، فيما التبست لدى الثاني الى درجة اعتبر كثر، معها، «متروبوليس» فيلماً يبرر النازية. في «الحبل» أتى السؤال والجواب عنه، أكثر وضوحاً وأقل ايديولوجية. فهتشكوك - متبعاً خطى باتريك هاملتون، صاحب المسرحية الأصلية -، دان الجريمة «الايديولوجية» التي تحصل في الفيلم ودان مرتكبيها: وهذه الجريمة تحصل في شقة من الواضح انها تقع في مانهاتن - نيويورك، يروح ضحيتها رفيق دراسة سابق يقرر رفيقاه أن يتخلصا منه، قبل حفل يقام في الشقة. هؤلاء المجرمان هما براندون وفيليب، أما القتيل - الضحية، فهو دافيد. إذاً، عند بداية الفيلم يقتل الشابان دافيد ويضعان جثته داخل صندوق يبقيانه في الصالة. يقتلانه معاً، لكن واحداً منهما يرسم الخطة ويتخذ القرار، فيما الثاني هو الذي ينفذ. ولكن لماذا يقتلانه؟ منذ البداية سيظل الأمر غامضاً... ومع هذا ثمة ايحاء بأن سبب مقتل الشاب هو ضعفه... فهو، خيانة للعلاقة التي بين الثلاثة، قرر فجأة أن يتزوج فتاة «لا أهمية لها»... ما كشف ضعف شخصيته وجعل القتل محاكمة وإعداماً بشكل من الأشكال. وعلى هذا النحو لا يعود القتل فعلاً مجانياً كما كان يبدو أول الأمر، بل يصبح عملاً طقوسياً، حتى وإن كان جانب الفعل والتشويق (هل نكشف الجريمة أو لا نكشف خلال الحفلة التالية؟) قد ظل هو الأساس، ما ضيع، الى حد ما، جوهر اللعبة الفكرية التي كان يمكن أن تضع «الحبل» في سياق فكري واحد، مع أعمال مثل «الجريمة والعقاب» (من ناحية الجريمة التي تكشف للقاتل تفوقه وقدرته على التملص)، أو «الغريب» لألبير كامو (بالنسبة الى فكرة القتل المجاني). ويقيناً ان هذا ما جعل هتشكوك ينتقد فيلمه، بعد أن كثر الحديث التقني عنه، وندر ان ذكر النقاد في شأنه أعمالاً مثل التي ذكرنا، في ذلك الحين. مهما يكن من أمر، لا بد من الإشارة هنا الى أن هذا الفيلم الذي قام بأدواره الرئيسة ثلاثة من نجوم الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي (جيمس ستيوارت، فارلي غرنجر، وجون دال)، حقق حين ظهر نجاحاً كبيراً، حتى وان كان اعتبر فكرياً من أعمال هتشكوك التي تنفي وجود ما يسمى ب «الجريمة الكاملة»... إذ، على رغم أن جزءاً أساسياً من حوارات الفيلم - بين صاحب «العقل» وصاحب «الفعل» -، دارت من حول براعتهما وقدرتهما على أن ينفذا الجريمة من دون أن يكشفهما أحد، انتهى الأمر الى انكشافهما والقبض عليهما، ما جعل النهاية أخلاقية - كاثوليكية من النوع الذي كان يستهوي هتشكوك، المعتبر واحداً من أكبر فناني السينما في تاريخها، والذي يحتل فيلمه هذا، مكانة كبيرة الى جانب أعمال كبيرة أخرى له، لا تزال تشكل علامات أساسية في تاريخ السينما، من «بسايكو» الى «العصافير» ومن «قضية باراداين» الى «النافذة الخلفية» و «دوخان» و «اني اعترف» و «شمالاً بشمال غرب»... [email protected]