بول غوغان المعلم العبقري اللوني الذي لم ينل من الشهرة في زمنه إلا فتاتها، لأنه كان معادياً للعبودية وتجبر السلطات الاستعمارية المتسلّطة بخاصة في فردوس تاهيتي التي استقر فيها مرتين، وعشق زوجته حتى الجنون، فأنجبت له طفلاً تحت سقف بيت من القش يدعى بيت الملذات. كان مسكوناً بأرواح الأساطير والخرافات وطواطمهم التي تشاركهم الإقامة ولا أحد يزعج سكينتها. أسس في القرن التاسع عشر مجموعة بونت آفين مع سوريزييه وفلاتون وسواهما. إن السحر الذي حمله من بطن زوجته ومن أمواج ورقص وطقوس تاهيتي أعطى للتصوير الفرنسي ما لم يحصل عليه منذ عقود عصر النهضة. ليس أشد تعاسة من نهايته! لم ترض السلطات الاستعمارية بخاصة رجال الدين إسعافه ومداواته، فقُطعت قدمه من الإهمال والغرغرينا. بعد سنوات يبكي عزلته الشاعر رامبو، ويحلم أن يُدفن إلى جانبه، ليخفف من شيطانية لعنته الإبداعية وسحره الخيميائي. ثم بدأ جلادو المزادات العلنية يعرفون قيمته، وتباع لوحاته بأسعار فلكية. في حين أن التاجر الذي كان يرسل له أقمشة الرسم والصباغة كان يشتريها بأقل من ثمن كلفتها. هو مولود في باريس عام 1848. وتوفي بالطريقة التي مرت معنا عام 1903 قرب بيت الزوجية، وانتهى في ضريح متواضع (وإلى جانبه في ما بعد ضريح الشاعر رامبو) ينطبق عليهما تواضع قبور المسلمين: «خير القبور الدواثر» أي التي لا تتعدى سطح الأرض. يستمر العرض في «القصر الكبير» (باريس) حتى منتصف كانون الثاني(يناير) 2018 علماً أن الإدارة تفتح أبوابه للنقاد قبل وقت. يعانق المعرض ستين لوحة من تحفه النادرة جمعت من آفاق متباعدة، بخاصة من بونت آفين ومجموعة زوجته. ناهيك عن ثلاثين منحوتة خشبية سحرية عالجها باستلهام من النحت المحلي، مع ثلاثين قطعة سيراميك ملون. كثيرون يعتبرونه أبرز مصور في القرن التاسع عشر، بخاصة في لوحته الأخيرة البانورامية التي تستعيد ستاندال: من أين أتينا؟ من نحن؟ إلى أين نذهب؟. يصور مرة صورته في المرآة وخلفه المسيح بالأصفر، لعل أبرز أعماله هي التي صور فيها شخصيته التراجيدية الراسخة التأملية، واحدة منها كاملة تدعى «بونجور موسيو غوغان»، صباحية مبكرة يلقي فيها تحية الصباح على جيرانه الذين يحبونه. وأخرى تبدو زوجته ماتاهيرا مسجاة على بطنها ليلاً من الرعب فقد تركها عن غير قصد وعندما عاد أدرك حجم رعب العزلة والشبح القابع قبالتها وتمسكها بالطواطم التي لا تفارقه. أخبرته وهي ترتجف عن هواجسها التاهيتية فأنجز بعدها مجموعة طواطم لا تنسى بالخشب المحلي بعد هذه الليلة المشؤومة، ولم يعد يفارقها منذ ليلتها هذه حتى توفي. كان يفهم زملاءه الانطباعيين بنقد معروف مفاده: «هم يبحثون حول العين، وليس في المركز الخفي للفكر!» وهذا ليس نوعاً من التجني لأن الانطباعية أعادت للطبيعة قوامها النسغي في الهواء الأوكسجيني الطلق. علينا بالاعتراف بأنهم تأثروا بالنظريات الفيزيائية حول التزامن اللوني للعالم الفيزيائي «شيفرول» ولكنهم تأثروا أكثر باختراع آلة التصوير (الفوتوغراف). ولم يكن يتهيأ لإدغار ديغا لقطاته الحرجة في كواليس مسارح البالية، لولا فضل هذا الاختراع، فالانطباعية مقيدة بموتيفات الطبيعة، ولا تقبل شطحاً وجنوناً أكثر من ذلك على طريقة فان غوغ! بينما غوغان كان يريد من تلامذته في بونت آفين (في مقاطعة البروتان) عندما يصورون شجرة ان يبحثوا عن أجمل أخضر بإمكانه التعبير عن حيوية الشجرة من اجل حمله إلى القماشة سخياً. الواقع أن عبقرية غوغان ليست في انفعالاته الجامحة كما هو وضع تراجيديا توأمه فان غوغ وقطع أذنه، وإنما محاولة عمل ما في اللوحة يوازي الموسيقى كعاطفة وبناء، بدليل أن زميله كوبكا كرس حياته لتحقيق هذا التواصل الصوتي البصري. كذلك فإن ما تحتويه هذه التكوينات الاستثنائية من أرابيسك نباتي سعيد لم يكن بعيداً عن استعاراته من هنري ماتيس وراؤول دوفي ليؤثر بدوره على مدرسة الإسكندرية بخاصة آدم عويس. ان قوة شخصية غوغان ومتانة ثقافته التشكيلية جعلتا من فنه نسيج ذاته، ممثلاً البرزخ المتوسط بين عاصمة الصخب التشكيلي باريس ودعة وسكينة عالم جزيرة تاهيتي ومهما يكن من أمر فإن طواطم هذه الحضارة دخلت في لوحاته لتغذيها بالسحر في حين أن مجموعة بيكاسو الأفريقية ومجموعة جان دوبوفي من الفن البكر كانت تغذي ايضاً ثرواتهم المالية.