يشهد «متحف الأورانجوري» (في قلب العاصمة الفرنسية) وبإشراف «متحف أورسي» أول معرض استعادي لفنان أصيل هو اميل برنار، مع خصوبة مجموعته في المتحفين. وفي هذا المعرض الشامل نجد عودة متميزة لهذا الفنان إلى المشهدين الفرنسي والعالمي. اعتدنا على عرضه كجزء أو عمود أساس في «مجموعة بونتافين» (على اسم المدينة الشمالية النورماندية)، والتي تشكل غصناً متفرعاً ومتجاوزاً للانطباعية في النصف الأول من القرن العشرين، هي المجموعة المبسترة التي كانت تضم بشكل أساس الثلاثي: بول غوغان وبول سوريزييه إضافة إلى فناننا المذكور. أما فان غوغ ورغم شيوع ارتباطه بهم فهو لم يعرض إلا مرة واحدة معهم. وظل على مسافة من تيارهم بخاصة بعد خصومته العميقة مع بول غوغان، لا شك في أن ما جمعهم النظرة وخصائص تقاليد المكان المسكون بسيدات وراهبات النورماندي والمناظر البروتانية الفردوسية والأشجار العملاقة. فقد أنجز الثلاثة في هذه الفترة التشكيلات نفسها ذات البناء المعماري المرتبط بجذوع أشجار السرو، والهياكل النسائية التي ترفل في أردية سوداء، هو ما قاد إلى التخطيط الصريح بالأسود (كما هي فواصل الرصاص في شبكات الزجاج المعشق في الكاتدرائيات نوتردام وشارتر وسيفران فتترصّع الألوان المتوهجة والصريحة الأولى في عتمتها مقتصرةً على بعدين في تسطيحها والتخلي عن التعبير بالبعد الثالث، توخياً للتبسيط الروحاني. وما يجمعهم هو الحساسية اللونية والتشكيلات والأزيائية البيئية النورماندية البنائية أو «الوحشية» (بالمعنى اللوني للتيار المعاصر) وخروجهم من رمادية مراسم باريس، سعياً وراء حيوية المناظر في الهواء الطلق وشمسه الخاصة. مثلهم مثل «جماعة الباربيزون» التوأميّة، هي التي سعت خلف هذه الغابة الطليقة ايضاً. بقي أن نذكر تداني رمزية أوديلون رودون في مرحلة عابرة من «جماعة البونتافين» وتأثيره على سورينرييه وغوغان، وهنا لا بد من مراجعة المعرض بسبب أهمية رسائله التوثيقية المعروضة. نستخلص من أصالة المعرض وحياد وثائقه بأن بعضاً من رواد تاريخ الفن المعاصر يؤثرون (رغم عبقرية موهبتهم وقوة تأثير بصماتهم العميقة على أساليب زملائهم) الانسحاب إلى مساحة الظل في محترفاتهم والنأي عن ضوء الشهرة الإعلامية أو النقدية النجومية النرجسية. هي التي كرست نظام الغابة في تاريخ الفن، وبروز بعض فنانيه على حساب رواده الحقيقيين من مثال اميل برنار هو الذي ولد وتوفي في فرنسا ما بين عامي 1868 و 1941. وما أندر أمثلته، على رأسهم بول سيزان أو ديغا وسواهما. يؤكد تطور اميل برنار الأسلوبي في المعرض وتواريخ وثائقه، أن هذا الفنان لم يكن يملك أدنى صبوة تفكير للتفرّد أو الأسلبة، وأن ما عثر عليه من طابع مميز مستلهم من مقاطعة بروتان في النورماندي استعاره بول غوغان وادعاه لنفسه، نجد تكراراً في العديد من رسائل فناننا الغاضبة أو العاتبة موجهة إلى غوغان، إلى أن قرر القطيعة معه بسبب ذلك. هو ما يذكر بنسبة بيكاسو لنفسه اكتشاف براك للملصقات التكعيبية في فترة خدمته العسكرية وإصابته في رأسه. ثم يضطر بيكاسو إلى الاعتراف بملكية التجربة إلى براك... هو الاتجاه المؤثر حتى على أنواع الابداعات الرديفة. لنتذكر بعض التجارب التكعيبية للشاعر جاك بريفير، وأثر هذا الاتجاه على بعض سوناتات الكمان التي وضعها بيلا بارتوك وهكذا. نعثر في الرسائل الحميمية المعروضة على تقدير فان غوغ وإعجابه بموهبة إيميل برنار، في وقت القطيعة بدوره مع بول غوغان. وإذا كان تواضع إميل برنار قاده إلى أن يعترف بتأثير المعلم سيزان على موضوعات الطبيعة الصامتة لديه، فالمعرض يعانق لوحات فيها تتفوق على هذا المصدر، وبالنتيجة فإن غوغان حاول ترميم علاقته بإميل برنار من طريق إلحاحه عليه بالسفر معاً للتصوير في جزيرة مدغشقر (قبل تاهيتي)، لكن فناننا فضّل أن يتعقب شمس مصر المشرقية ليبقى فيها عشر سنوات ابتداءً من عام 1894، هي الفترة التي تزوج فيها فتاة مسيحية سورية، وأنجب منها خمسة أبناء، هجرهم مع والدتهم عندما ترك مصر، فقد كانت من عادته عدم الثبات على زوجة، ولكن الأهم فنياً أن هذه الفترة الخصبة راجع فيها فناننا أساليب عصر النهضة الكلاسيكية ليصور مشاهد محلية بطريقة توليفية تزاوج بين أساليب ما بعد الانطباعية والنكوص الكلاسيكي. علينا أن نعترف اليوم بعمق تأثيره على فناني عصر نهضة التصوير في مصر، ما بين راغب عياد وعبدالهادي الجزار مروراً بالمعلم الإسكندراني محمود سعيد نفسه وناجي. ما زالت قدرة هذا الفنان على التأثير متأججّة حتى اليوم، فالشخوص المضجعة على الأرض التي عرف بها اليوم كييفر (والتي يعيد رسمها بعض الفنانين الملتزمين العرب باسم الشهيد) ما هي إلا استعارة لوحة إميل برنار: «مادلين في الغابة» المنجزة منذ عام 1888. ورغم من أن خصائص لوحته لا تخلو من التوليف والمصالحة بين اتجاهات متباعدة ما بين الرمزية والكلاسيكية فهو متفرد رهيف التلوين والتكوين، تتحرك تجاربه الأصيلة بعكس تيار المودة العامة كل مرة. هو ما يفسر سفره إلى النورماندي على الأقدام واكتشافه لبونتافين التي سميت حركته باسمها كما أسلفنا القول، ثم كثافة أسفاره عندما أقام في القاهرة ثم سفره إلى إيطاليا لإعادة دراسة عباقرة البندقية من تنتوريتو وفيرونيز وتيسيان إلى عباقرة إسبانيا مثل الكريغو وفيلاسكيز. هو ما يفسر من بعيد علاقته الفنية الحميمة مع هنري تولوز لوتريك. وتفوقه بتقنية الطباعة والحفر (بخاصة على الخشب والتي إستعارها من غوغان) مما أهله لإنجاز رسوم ديوان «أزهار الشر» للشاعر بودلير بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاته. وما أن عاد إلى فرنسا بعد مصر حتى كان ذكره منسياً، ولكن سرعان ما عرفه أصحاب المتاحف وتهافتوا لاقتناء أعماله قبل وفاته، من هذه مجموعة المتحفين اللذين يقعان خلف فضل إقامة معرضه الإستعادي الأول اليوم، باعتباره رائد «الواقعية الرؤيوية». إبتدأ العرض في قلب التويليري (باريس) في متحف الأرانجوري (بإشراف متحف أورسي) منذ أواخر أيلول (سبتمبر) مستمرا حتى الشهر الأول من 2015. يمثل المعرض بالنتيجة جولة مكثفة في تاريخ المعاصرة والواقعية الكلاسيكية بما يرسّخ شمولية أسلوبه غير المؤسلب والمتمايز في المعرض من خلال التنافس في تصوير وجوه الفنانين لذواتهم في المرآة. إميل برنار مع غوغان، ثم غوغان مع فان غوغ ثم إميل برنار مع زوجته بلباس الباشا المصري. أو صورته الشخصية (الأوتوبورتريه) على أرضية من الحضارات التي أثارت لوحته وألهمتها.