إذا قيّض للمرء أن يقرأ سيرة حياة الرسام الفرنسي بول غوغان في الوقت نفسه الذي يتأمل فيه لوحاته الأساسية والكبرى، سيصاب بالدهشة حتماً. ذلك أن معظم هذه اللوحات يحفل بحبّ للحياة وتعبير عن السعادة، موضوعات وألواناً وشخصيات، يتناقضان تماماً مع الوضعية التي كان يعيشها غوغان في اللحظات نفسها التي رسم فيها تلك اللوحات. ففي هذه الأعمال تقشّف وفرح وتألّق يجعلها أقرب إلى أن تكون تعبيراً عن الفردوس الأرضي، منها تعبيراً عن أي شيء آخر. ومع هذا تكاد سيرة الفنان تتألف كلها من فصول الموت والمرض والإفلاس والتفكك العائليّ والصراعات والترحال ومحاولات الانتحار. بل إن حياة غوغان نفسها كانت قصيرة فهو لم يعش سوى خمسة وخمسين عاماً، كما أنه لم يبدأ الرسم حقاً إلا حين كان في الخامسة والثلاثين. وحتى خلال تلك السنوات العشرين الأخيرة من حياته، لم تعرف هذه الحياة أي استقرار عائلي أو نفسي، أو جغرافي في أي مكان، فهو عاشها دائم التنقل، وغالباً هرباً من وضع ما، أكثر مما عاشها بحثاً عن شيء ما. وهذا كله من الصعب العثور عليه في لوحات الرجل، لأن معظم هذه اللوحات يكاد يقول لنا إن غوغان إنما عاش في يسر وتأمّل واستقرار، حتى وإن كانت واحدة من لوحاته الرئيسة تحمل عنواناً يحفل بأسئلة القلق الوجودي، ونعني بها لوحته الضخمة المعنونة «من أين نأتي؟ مَن نحن؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟» التي رسمها قبل سنوات قليلة من موته، محاولاً فيها أن يلخّص أسئلته وحياته ومعنى الوجود في ذاته. ونعرف طبعاً أن غوغان رسم هذه اللوحة حين كان يمضي سنوات حياته الأخيرة في المناطق الاستوائية، مريضاً حزيناً يائساً، محاولاً الانتحار. غير أن الغريب في أمر غوغان، هو أن إقامته في تاهيتي وغيرها من الجزر والمناطق الاستوائية، خلال الجزء الأخير من حياته، وعلى عكس ما يعتقد كثر، لم تكن هي المسؤولة عن زهو ألوانه واحتفال لوحاته بالحياة. فهو منذ بداية تحوّله إلى الرسم، منذ عام 1883، رسم - في إقليم بريتاني في الغرب الفرنسي خصوصاً - لوحات، دينية أو غير دينية، لها الألوان والخطوط نفسها التي ستعود وتضخّ بالحياة والحيوية، لوحاته الاستوائية. وكأن الرجل بحث في تلك المناطق البعيدة، عن تأكيد لأساليبه الفنية واختياراته اللونية، ليس أكثر. ومهما يكن من أمر فإن علينا أن نتنبّه هنا إلى أن غوغان إنما استقى عوالمه وحتى بعض مواضيعه دائماً من المكان الآخر، بل إن ثمة تأثيرات فرعونية واضحة في بعض هذه الأعمال (لوحة «السوق» مثلاً التي رسمها في عام 1892، وتكاد تكون فرعونية خالصة). * وعلى رغم هذه الوحدة التي تطبع عمل غوغان، صاهرة في بوتقة واحدة تقريباً، أعماله الاستوائية، وتلك ما قبل الاستوائية، فإن لوحات الجزر، تظل الأشهر في عمله، لا سيما منها تلك التي حرص فيها غوغان على جعل المشهد المرسوم مشهداً فردوسياً، حافلاً بالحركة الداخلية والالتحام بين الطبيعة والإنسان. ومن هذه اللوحات، لوحة «نافي، نافي، موي» (أو «ربيع الملذات») التي رسمها في عام 1894، وتوجد الآن في متحف «أرميتاج» في سان بطرسبورغ (لينينغراد). تكاد لوحة «ربيع الملذات» أن تختصر رؤية غوغان لذلك «الوطن» الذي اختاره لنفسه، والذي سيشهد نهايته بعد أقل من عقد من إنجاز هذه اللوحة. ومع هذا، فمن الواضح أن غوغان لم يرسم هذه اللوحة في الجزر الاستوائية، بل في أوروبا حين راح، بين سفرتيه إلى تاهيتي، يتنقل بين كوبنهاغن وباريس، محاولاً، في عز مرضه، أن يجمع مالاً يكفيه لمواصلة سفره وحياته الاستوائية. من هنا، يبدو واضحاً أن غوغان رسم هذه اللوحة من الذاكرة، وانطلاقاً من اسكتشات عدة كان ينقلها معه حيثما تنقّل. والحال أن هذه اللوحة تبدو، في هذا الإطار، محاولة إضافية من الفنان للتمرد على حياته القديمة، استكمالاً لتمرده قبل ذلك بسنوات على مهنته الأساسية في المصارف والبورصة، وحياته الأوروبية الرتيبة. في هذه اللوحة يبدو واضحاً - من الناحية الفنية - كيف أن غوغان الآتي أصلاً من النزعة الانطباعية، أمعن في تمرده على هذا التيار معلناً أن رسم الظاهر الموضوعي للأمور لم يعد يرضيه. إنه هنا يسعى إلى التقاط عالم يقع أبعد من السطح الخارجي للأمور، عالم أسطوري تتجسد فيه تجارب الوجود الإنساني في تلقائيته وأساسياته. وهو يقول لنا هنا، إنه إنما عثر على ذلك العالم في تاهيتي، الجزر التي هرب إليها لاجئاً من مشاعر القرف التي كان يستشعر بها إزاء ملذات الحضارة المزيفة. إنه هنا يعبّر عن ملذات حقيقية كان يرى أنها هي ما يسيّر حياة السكان البسطاء، شبه البدائيين، جاعلة من تلك الحياة المنبع الحقيقي للنزعة الإنسانية. في هذا الإطار تعبّر هذه اللوحة - مثلها في هذا مثل العشرات غيرها - عن مسعى غوغان إلى التقاط البراءة ولكن، من دون المرور بأي فراديس حديثة مصطنعة. وليس فقط في مواضيعه، بل أيضاً - بخاصة - في الطريقة التي يعالج فيها الرسم. إنه هنا، يسعى إلى خلق فن يكون جديراً بأن يحلّ محلّ فن ديني كان في رأيه قد تدهور كثيراً أمام مادية القرن التاسع عشر. من هنا، ذلك الإحساس العميق بالحضور السماوي في هذه اللوحة، حتى وإن كان الحيّز المعطى فيها لفضاء السماء نفسه، قليلاً... ذلك أن السماء في لوحات غوغان ماثلة في حياة الناس وعيشهم... هي مكان روحي أكثر منه مكاناً طبيعياً... وهذا البعد الميتافيزيقي الروحي لم يخف على الأوروبيين الذين، على رغم إعجابهم بلوحات غوغان هذه، نأوا بماديتهم، عنها. مسجلين اتفاقاً مع أبعادها الشكلية. وهكذا مثلاً، حين اطلع غوغان في عام 1894، الكاتب المسرحي السويدي الكبير أوغوست سترندبرغ، على لوحته هذه، بين أعمال أخرى يزمع عرضها معاً، طالباً منه أن يكتب مقدمة ل «كتالوغ» المعرض، أجابه سترندبرغ: «يا سيدي، أنت في لوحتك هذه، كما في لوحاتك الأخرى، خلقت أرضاً جديدة وسماء جديدة، غير أنني أنا شخصياً لا أستسيغ لنفسي وجوداً في هذا العالم الذي خلقت». والحال أن هذا الموقف لم يفته أن يعمّق من شعور غوغان في ذلك الحين بأنه متروك من الجميع، هو الذي كان قد عاد إلى أوروبا، حاملاً رؤاه ولوحاته، معتقداً أنه سيلعب دوراً في المناخات الغرائبية التي كان يعتقد أنها على «الموضة» في أوروبا، فإذا به يكتشف أن صورة الفراديس المزيفة هي «الموضة» أما «الأصيل» الذي يحمله هو معه، فإنه مرفوض. * وهذا ما جعل بول غوغان يعود في العام التالي إلى تاهيتي ليعيش آخر ما تبقى له من سنوات، خائب المسعى من أوروبا التي لم تفهمه. ولئن كانت تلك السنوات المتبقية قد شهدته يغوص في يأسه وبؤسه، لا سيما حين راحت تتناهى إليه أخبار موت ابن له إثر ابن آخر وابنة، ما زاد من اعتلال صحته وكاد يفقده بصره متضافراً مع إفراطه في الشرب، فإن هذا كله لم يوقفه عن الشيء الوحيد الذي أتقنه في حياته وبرر به وجوده: الرسم. وبول غوغان الذي ولد عام 1848 ليموت عام 1903، ظل حتى عام 1883 هاوياً للرسم من بعيد، متقلباً في مهن عدة، بحاراً أو مصرفياً أو عميل بورصة. ولقد غيرته في اتجاه الفن لقاءاته مع بيسارو، فقرر خوض المغامرة على رغم مسؤولياته العائلية الصعبة إذ اقترن بالمربية الدنماركية ماثي وأنجب منها أولاده تباعاً. وهو رسم أول الأمر مشاهد طبيعية/ دينية في بريتاني، ثم انتقل إلى باريس حيث تعرّف إلى فان غوغ وشقيقه ثيو (وبسرعة سيتشاجر معهما كما ستكون حاله دائماً إذ يعقد الصداقة ثم يتمرد عليها). وهو بعد ذلك تنقل بين كوبنهاغن وباناما، حتى استقر في جزر خط الاستواء لا سيما تاهيتي وما جاورها، حتى رحيله. [email protected]