ذات يوم، ذهبت الى مدينة صيدا لإنجاز مهمات طارئة خاصة بعملي، وعلى رغم الحال السياسية المتوترة في ذلك اليوم، لم يكن أكثر المتشائمين يظن ان الأمور ستنحدر الى ذلك الدرك بين ابناء الوطن الواحد. بدا الطقس صافياً حين انطلقت بنا الحافلة من العاصمة بيروت الى صيدا، تلك المدينة الساحلية الجميلة، وكان الطريق خالياً الا من بعض الشبان الغاضبين الذين كانوا يتحضّرون لقطع الطرقات بالدواليب ومستوعبات النفايات، كنت أراقبهم وعيني على الجهة الأخرى، أي طريق العودة الى بيروت. وصلت الى صيدا خلال نصف ساعة، وأخذت الأخبار تتوالى منذرة بحرب طاحنة أو باستعادة واحدة سابقة. أنجزت الأعمال سريعاً وقصدت ساحة النجمة لأعود أدراجي الى بيتي. وقفت في المرأب منتظراً مع جموع المغامرين الذاهبين الى بيروت بعد أن استغل بعض السائقين الأوضاع لرفع سعر الأجرة في شكل كبير ما جعل كثيرين يتذمّرون ويحجمون عن الركوب. ومن الحشد ظهر سائق شاب تبدو على وجهه إمارات الحذق والنباهة ليعرض سعراً معقولاً، مقارنة بغيره من السائقين الذين دعوا له «بالتوفيق في الوصول الى بيروت»، على مضض. ولما كان الراكب دائماً يختار السيارة التي يريد أن تقله، انقلب الموضوع هذه المرة لكون معظم الموجودين من الشباب، فاختار السائق ركّاب سيارته الأربعة، بحيث شكّل نموذجاً عائلياً يضم رجلاً سبعينياً (الوالد) وامرأة في أواخر الخمسين من عمرها (الأم) ورجلاً في مطلع الأربعين (الابن) وحالفني الحظ لأكون بمثابة «الحفيد» (28 سنة) لهذه العائلة «المعنوية» بعد تعذر إيجاد فتاة. انطلقت بنا السيارة عند منتصف النهار والمذياع يعلن، كل بضع دقائق، أخباراً أعادت إلى أذهان الركاب صوراً مؤلمة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990). انحرف السائق الى الطريق الجبلية بعد أن أصبح على يقين بأن الطرقات قد أقفلت بحواجز يصعب اختراقها بسلام، وكلما زادت المسافة صعوداً كان السائق يرفع الأجرة... وراح يحدثنا عن بطولاته واعتياده ركوب الخطر وبخاصة في حرب تموز 2006 عندما أنقذ عائلات كثيرة في جنوب لبنان... واختتم حديثه بجملة اختصرت الكثير من واقع تلك الأيام السود من تموز وأيار... إذ قال: «لكن، هذه المرة أشعر بالخوف أكثر». اجتزنا قرى من إقليمالخروب قبل أن نواجه بعض الشبان المحتشدين الذين اقتربوا من السيارة متمتمين في ما بينهم، حول ضرورة معرفة هوية كل واحد منّا. وشفع لنا قبل أن يطرحوا سؤالهم حجاب المرأة الخمسينية الذي كانت ترتديه في شكل معيّن يدل على مذهبها. والمضحك المبكي هنا، ان المرأة كانت تعدّل منديلها بحسب المكان الذي نمر فيه، بخاصة بعد أن سمعنا أن هناك قتلى وجرحى في أماكن مختلفة من لبنان وعرفنا ان الأمور خرجت عن السيطرة. وصلنا الى منطقة الناعمة (غالبية سكانها من السنّة)، لنجد مئات الرجال والشبان يقفون وسط الشارع وهم يهتفون بحياة زعيمهم، ركضوا إلينا والعصي في أيديهم وعندما همّوا بالسؤال عن «ميولنا» بادر الرجل الأربعيني بإبراز بطاقة خاصة أشعلت الحماسة في صدورهم، فقاموا بفتح الطريق مرحبين وناصحين بتوخي الحذر. في محطتنا الأخيرة، بعد خمس ساعات من العذاب كانت منطقة الأوزاعي (غالبية سكانها من الشيعة)، واجهنا عشرات الشبان الذين طلبوا الينا الترجل من السيارة لولا أن الرجل السبعيني همس بأذن احدهم بكلمات كانت كفيلة بوصولنا الى برّ الأمان، حيث افترقنا سالمين صامتين، كما كنا طوال الطريق. حينذاك، تغلب التنوّع الطائفي للركاب على الاعتبارات العائلية التي أراد منها السائق استعطاف المعبَّئين المنتشرين على الطرقات، وحالفنا الحظ ربما لنكون السيارة الوحيدة التي اجتازت جميع الحواجز. في تلك الأزمة شكرت الله على نعمة التنوّع الطائفي الذي جمعنا في سيارة واحدة، فلولاه ما كنا وصلنا الى بيوتنا... سالمين.