كعادته كل مرة يتعثر الرئيس السوداني عمر البشير بهفواته القاتلة التي يعتقد أنها ستخيف معارضي نظامه التكفيري المتطرف، في حين أنها تزيد الغضب في نفوس السودانيين، وتوغر صدور أبناء شعبه عليه. هذه المرة، وقبل أن يصدر قراراً بإحالة 350 ضابطاً في الجيش إلى التقاعد بتهمة التعاطف مع زعيم حزب المؤتمر الشعبي حسن الترابي، خاطب من قد تسوّل لهم أنفسهم بتنظيم تظاهرات على شاكلة ما حدث في مصر وتونس بتحديه لهم أن «يطالعوه برة»! وهي لغة تشبه «بلطجية» نظامه من رجال الأمن الذين يتحرشون بالحرائر وبنات الأسر ويهددون باغتصابهن إن تظاهرن ضد النظام، ولا يليق برئيس دولة أن يتحدث بهذه الفجاجة والإقذاع في القول. بيد أن التهديد نفسه ليس جديداً على البشير، فقد جاء إلى السلطة على ظهر دبابة وانتزع الحكم من حكومة منتخبة ديموقراطياً عام 1989. وطفق يمارس خداعاً للذات حتى أضحى يعتقد بأنه اكتسب شرعية، وظل «يمطَّط» حبال تلك الشرعية الكاذبة إلى درجة اتخاذ قرار باسم الشعب يقضي بفصل الجنوب عن الشمال، والمضي في الطريق نفسه لفصل دارفور عن الوطن الأب. والحقيقة أن الرئيس السوداني يتصوّر أنه بتهديداته الخاوية تلك قادر على قمع ثورة شعبه ضده، غير مدرك أن الشعب يريد إسقاط النظام، والتغيير مهما كان الثمن، حتى لو حولت دماء شهداء أسلحته الصينية والإيرانية ماء النيل الأزرق أحمر قانياً. لا يريدون إسقاط البشير ليتلذذوا بخلافته، ويتمرغوا في وحل الموبقات التي يمارسها بأموال الشعب وسلاحه، بل ليحموا كيانهم من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي رسّخها هذا النظام، متدثراً بثوب الدين المسيّس. يريد الشعب السوداني إسقاط البشير لوضع حد للفساد والرشوة واستباحة المال العام، ولوضع نهاية لإفقار الدولة شعبها حتى أضحى التسوّل الوسيلة الوحيدة التي يقيم بها ملايين السودانيين أودهم. يريد الشعب السوداني إسقاط البشير ونظامه لتسقط معهما الدعارة التي أدت إلى زيادة فظيعة في عدد المصابين ب «الأيدز»، خصوصاً بين الشباب من سن 18 إلى 35 عاماً. ويريد السودانيون إسقاطه لأن فساد نظام البشير يتبدى في مأوى اللقطاء في الخرطوم الذي يستقبل ما يراوح بين 2 و5 لقطاء يومياً. ويريدون إسقاطه لكبح جماح الجريمة التي تفاقمت وتعددت أنواعها، ولم يكونوا يعرفون كثيراً من أصنافها البشعة قبل عام 1989. يريد الشعب السوداني إسقاط البشير ونظامه لوضع حد لسرطان البطالة، ونزف العقول المهاجرة والكوادر المُدَرَّبة. ويريد إسقاطه لتنصيب حكم ديموقراطي قادر على انتشال الخدمات الصحية من الوهدة التي تردت إلى حضيضها، حتى أضحى السفر للعلاج في الأردن ومصر وبريطانيا والسعودية يستنزف نحو 600 مليون دولار من الخزانة العمومية وجيوب السودانيين الذين وجدوا أن نظام البشير رفع يده نهائياً عن الخدمات التي تكفلها الدول عادة لدافعي الضرائب من شعبها. السودانيون يريدون إسقاط البشير حتى لا تؤدي فتن القبلية والعنصرية والمحسوبية إلى تشظي ما سيبقى من ولاياته الشمالية. ويريدون إسقاطه حتى يتاح لهم في ضوء الديموقراطية والسلام والمشاركة الحقيقية وقف انحدار مستوى التعليم العام والعالي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هياكل الخدمة المدنية التي اهترأت تحت وطأة مبدأ تعيين أهل الولاء واستبعاد الآخرين حتى لو كانوا الأكثر كفاءة. يريد السودانيون إسقاط البشير لكف يده وأيدي أتباعه وذويه عن اقتصاد السودان الذي يتمرغ في التضخم، وغلاء أسعار الغذاء، وتخبط سياسات البنك المركزي، وهيمنة السوق السوداء على العملات الأجنبية. إنهم يريدون إسقاط البشير ونظامه لخلق علاقة تفاعلية رحيمة وعادلة بين الشعب وقطاعات عائدات الدولة من جمارك وضرائب، لوضع حد للجبايات الجبرية والأتاوات المقننة التي تقض مضاجع المواطنين، وترغمهم على إغلاق متاجرهم ومصانعهم ومصادر أرزاقهم، حتى لجأ كثيرون إلى التسوّل والسرقة والهجرة والدعارة... نعم الدعارة! هل يصدق أحد أن كل تلك الفظائع تحدث في السودان؟ وهل يصدق العقلاء أنه فوق ذلك كله تأتي فظائع القوات التي تأتمر بإمرة البشير وأعوانه، من قتل للمدنيين العُزَّل، واغتصاب لنسائهم، وإحراق لقراهم، واعتقال لأبنائهم وبناتهم، وأكل أموالهم بالباطل؟ لهذه الأسباب مجتمعة يريد السودانيون إسقاط البشير ومحفل الإسلام المسيَّس الذي يمارس تلك الفظائع. ولهذا فإن ثورة الغضب السوداني آتية مهما حاول الرئيس السوداني قمعها وتحديها بعبارات جبانة من قبيل: «طالعوني بَرَّةْ». سيطالعونه حتى تُراقَ منهم الدماء، وحتى يُكتب النصر للثورة التي يكاد مرجلها يتفجّر. * كاتب وصحافي من أسرة «الحياة»