قبل فترة زار الدكتور محمد الأحمري إيران، وكانت فرصة له للاقتراب قليلاً من المشهد الإيراني، والتعرف عليه عن كثب، وخرج من الزيارة بجملة رؤى وأفكار تجعله يعيد صياغة العلاقة مع الإنسان الإيراني، ويقرأ تحولات المجتمع فيه جيداً.الحديث مع الأحمري يكون على براق العقل، لذا نتجول بسرعة في كل شيء، نتجاوز المسلمات والغيبيات ونحكّم العقل، نستفتي القلب وإن خاصمنا الكل، نجعل النص هو الأصل، ونحترم تنوع قراءة الآخرين لمدلولاته، ولا نلزم أنفسنا برأيهم! للسياسة حضورها في حديثه، والسياسة أصبحت تتسلل لكل شيء في حياتنا، لذا ليس عجباً إن رأيناها هنا تستفرد بمساحات من الحوار. الدكتور الأحمري عاشق للحقيقة، ومحب للاختلاف، ويحترم كثيراً التنوع، مرجعيته عقله وثوابته، وما بعدهما فالعراك العراك... إلى تفاصيل الحوار: ماذا خسرنا برحيل أركون والجابري ونصر أبو زيد من الحياة؟ - قال كل من هؤلاء ما عنده، واستعرض كل منهم فهمه، وفسحوا الطريق لمن يجد ما يقوله. لماذا رحلوا ولم يخلفهم أحد؟ - إن كانوا مفكرين أصلاً، فالأصل ألا ينوب في مكانهم نائب، ولا يرثهم وريث، بل يكون بجانبه أو فوقه أو دونه ممن يقول قولاً مختلفاً، فالمبدع متفرد، لعله يأتي من هو أمكن منهم، لمَ لا؟ أو أجود عقلاً وتجربة وتفانياً. كيف لنا أن نقرأ القرآن بالعقل؟ - اللجوء للطريقة السلفية أو للفهم الحرفي وللنقل والثقة بالمنقول واتهام الشائع واتهام العقل له أسبابه الشرعية وله مبررات وعلاقة بثقافة الخوف من العميل ومن الأجنبي ومن تسلله للحياة والفكر الإسلامي، وما يوحي به التعويل على العقل الآن من أنه من نتاج حملات التغريب والاحتلال، فتتهم العقول ويتهم المصلحون بالتبعية وربما بالعمالة عندما يرون نجم العمالة والتبعية عاليا. ولهذا يكون اللجوء للنصوص وللمدرسة الحديثية ولفكر الجهاد منقذاً، وهنا يضعف العقل وللأسف فأيضاً اتهم العقل في زمن الاستفزاز وزمن المواجهة، ويستجلب الطرفان القطعيات، بينما العقل يحتاج لمجتمع مستقر آمن وغير مستفز فشرط العقل مجتمع النقاش الحر، ولو سمح للعقل بالوجود في زمن المواجهة، فإنه يجلب للميدان كأداة تكتيكية لا كاستراتيجية أمة. وأعطي مثالاً هنا، قد يقول العقل الاستراتيجي خيراً لكم أن تستوعبوا الكيان الصهيوني كجزء من مجتمع عربي وفلسطيني في دولة واحدة، وكما استوعب مجتمعنا الإسلامي التتار الهمج الإرهابيين في يوم ما، وذابوا في مجتمعنا وحضارتنا، فإن الهمجية الإرهابية الصهيونية خير تعامل معها استيعابها في كيان واحد هو فلسطين، بدلاً من الإصرار على بقائها قاعدة إرهاب ديني واستعماري في المنطقة، وخنجراً في الخاصرة يغتال مستقبلنا دائماً. ولكن العقل التكتيكي قد يقول الهدنة والحصار، إلى أن يصل إلى لاستئصال يوماً ما. والجواب الحرفي قتال حتى الاستقلال والإخراج. فهناك إجماع على تحديد عنصر التدمير، واختلاف مستمر على طريقة التعامل معه، وكون المرء يفكر باستفزاز، فلا يستطيع إعطاء العقل مكاناً، مهما يكن عميقاً ومطلوباً في تراثنا، علماً بأن الآراء الشعبية قد تكون أحياناً أكثر تعقلاً. برهن إبراهيم عليه السلام أن العقل وحده كاف للهداية، وللتفرقة بين الحق والباطل، فهو عرف خالق الكون عندما سمح لعقله بأن يفكر بلا قيود قبل اختياره للرسالة، فما سبب هجمة رجالات الدين على مستخدمي العقل في الدين وأموره؟ - من أسباب ذلك أن المصطلحات أحياناً يعبث بها، فالهارب أو المتولي يوم الزحف عن المعركة قد يضع لعمله مصطلحاً جميلاً، كأن يصف الجيش بالتهور ويصف نفسه بالتعقل، أو إدراك المصلحة، وقدمت لنا الحرية ذات يوم على أنها الخلاعة، ولهذا قوبلت الحرية بالنفي والكراهية، وكذا العقل إذا قدم على أن الاستسلام الثقافي والفكري والسياسي هو العقل، فسيتهم هذا العقل وينبذ وبهذا ينبذ الخير في عِصاف الشر. كيف تدفع الخوف على الدين من العقل؟ - ظاهر النصوص والشخص النصوصي يعطي هوية ووقاية وعزلاً للمخالف المخيف، بينما يوحي العقل بالهدوء والقبول أو التسامح مع من يجرم في الحياة اليومية، ولهذا فإن من مخاطر المجتمع المستهلك لنفسه في مواجهات، أنه يقلّل من حظ العقل والفكر فيه، ويرفع من شأن المواجهة الجازمة، أو يتبنى الحيلة والخداع والمؤامرة وتفسير الأمور أحياناً بغير حقيقتها، لأن العلاقة قائمة على الشك لا على الثقة. أيضاً إبراهيم (عليه السلام) كان فرداً مع أنه في الرأي أمة، ولكن تبقى حاله حال فرد، وفرصة الفرد ومسؤوليته تختلف عن حال الجماعة، فالجماعة يسوقها العقل الجمعي الأقل من مستوى الفرد الرشيد بكثير، فالعقل الجماعي ينزل للمتوسط، ومتوسط فكر مجتمع متوتر ويعاني، سيكون أقل من متوسط عقل مجتمع مريح فضلاً عن فرد، وهنا ثقافة التهييج تكون الحاسمة ولو موقتاً. كان المسجد في العهد الراشدي البرلمان الحق، فلماذا توقف في عهود ما بعد الرشد؟ - جدّت قضيتان إحداهما التعقيد الإداري في تطور طبيعي للدولة، وجدّ احتكار الحاكم للقرار الإداري والموارد، وبسبب هذا التوسع العددي والمكاني، وتخلف النظام الإداري عن ملاحقة الانفجار العظيم للدعوة وللأمة، وتعقد قضايا الأمة، وقع الاستبداد والانغلاق، وفسر كل حاكم الأمر بالشورى كما أحب، وكانوا في وقت الأزمات يرجعون لكبار الأمة أو يتظاهرون بذلك، وفي زمن الهدوء يمارسون أسوأ الاستبداد، والحقيقة أن الفعل الإيماني والأخلاقي كان هائلاً، ولم تكسره مشكلات السياسة، ولما قل الدفع الأخلاقي الهائل للأجيال الأولى، اكتشفت الأمة ورطاتها السياسية العظمى، وللأسف لم تضع حلاً، فتفرقت شذر مذر، وأغلب الفرق العقائدية أسبابها سياسية، وبعد أن شبعت سياسة أصبحت المواقف السياسية عقائد، ثم بحثت عن عقائد أشمل لتتسع للدنيا والآخرة. التعبير عن أنفسنا الدعوة للإسلام لا تكون إلا بأسلوب سلمي، فقد قال عز وجل: (لا إكراه في الدين)، هل تتفق مه من يقول إن الفتوحات لم تكن كذلك؟ - عندما لم نصبح قادرين على التعبير عن أنفسنا في زماننا، أصبحنا نرى إرهابهم واستغلالهم وعنصريتهم والنازية الغربية في فلسطين عدلاً، وأصبحنا نهجو أنفسنا حاضراً وننتكس حتى لنهجو الماضي، ونستورد ببغائية هجاءهم لماضينا، ونجيد فقط ترجمة آرائهم عنا، قل لي بالله أين المجتمع المسلم المنفتح في الشرق الإسلامي في الأندلس وأيام الإسلام في شرق أوروبا؟ هل يمكن لعاقل أن يقارن بين تسامح المجتمع المسلم مع أقلياته لمدة تزيد على 14 قرناً، وبين إبادتهم المستمرة للوجود الإسلامي من الأندلس إلى البلقان في أواخر القرن ال20؟ ألم يبيدوا المسلمين فيها إبادات جماعية؟ بل العجيب أن المفكر البريطاني المسلم كليم صديقي توقّع منذ أكثر من 30 سنة، أن المحرقة النازية ستعود لأوروبا، ولكن أمة أخرى غير اليهود هي من ستقام لها المحرقة، بل وأين الوجود الإسلامي في أميركا الجنوبية قبل الهجرات المسيحية الاسبانية؟ لقد أبيدوا تماماً، ومن بقي تنصر وهرب من الحواضر، ولجأ للجبال ومارس الرعي، ولم يترك في قارة أميركا الجنوبية إلا اخبار الرعاة من بقايا المواجهات الإسلامية المسيحية في أميركا اللاتينية. وأيضاً فإن المجتمع نصارى الشرق من عرب وغيرهم في الشام تعرضوا للإبادة الجماعية على أيدي الصليبين المسيحيين الغربيين، ولم يعان نصارى البلاد العربية إلا في عهود الهيمنة العنصرية المسيحية الغربية في زماننا، ولا تنس أن الإبادة العنصرية مركب ثقافي غربي، يصدرونه إلينا في زمن عنفهم، كما يلقاه نصارى العراق اليوم. فعندما تبيد وتثير الفتن وتستخدم بعض الأقليات أو تستخدم العنف لتتمكن، فإنها بضاعة أميركية أصاب شررها نصارى العرب كما أصاب المسلمين، ولا عهد للأقليات الدينية في العراق بهذا العنف إلا في زمن العصابات العنصرية الصهيونية التي نظمها عملاء الصهيونية، لإجبار يهود العراق على الهجرة للكيان الصهيوني. وعانت الجالية اليهودية العراقية والمصرية أيضاً إرهاباً صهيونياً مماثلاً، لإجبارهم على الهجرة. بينما من قبل هذا كان اليهود يسيطرون على مالية العراق، ووزارة المالية كان يتولاها في العراق يهودي من عائلات مثل آل ساسون، ولم يعان النصارى إرهاباً تحت حكومية دينية ولا قومية عربية كما عانوا تحت حكومات الاحتلال الأميركي اليوم. فرنسا وبعض دول أوروبا اليوم تقود حملة شعواء ضد النقاب، هل تراها مجرد هوس كاثوليكي وعنصرية حمراء، أم أن لهم سبيلاً لذلك في الحرية؟ وهل هي مستعمرة جديدة وقعت على أرض الحريات والإنسانية هذه المرة؟ - هذه السنوات تشهد تطرفاً في تحديد الهوية الغربية المسيحية ويصعد هذا التطرف بطريقة غير مسبوقة بشكل عام هناك، فقد كان الشعور بالمواجهة مع المسلمين غالباً يحرك الجبهات والمتدينين، أما اليوم فهناك تأزم شمولي ليس كل أسبابه دينية فالدين عامل، وأزمة نقص السكان، وأزمة تحول الثروة للبلاد العربية والإسلامية والشرق وجنوب آسيا، والحروب المخسرة. ثم إن المسيحية يعاد تفسيرها علمانياً ليقال لها هوية، وكان النص الخاتم أو الكتاب الأخير في حياة هنتنجتون نص هوية خائفة وهو كتابه: «من نحن»، ثم إن فرنسا أقرب لنا وتشعر بآثار عنفها وإرهابها الاستعماري في المغرب العربي وغيره. رحلتك الأخيرة لإيران هل حملت فتوحات إليك؟ وماذا تغيّر في نظرتك للإنسان الإيراني؟ - يقول شاعرنا القديم: «ومن أدمن المثواة في الحي أخلقا» الرحلة تجديد ووسيلة مهمة لفهم ما يجري، أما موضوع الإنسان فهو غالباً ابن تربيته وثقافته والظروف المعرفية والنفسية أكثر من مسألة العنصر، والإنسان هناك يعاني من حصار ثلث قرن، ومع ذلك تشعر بأنه لم يستسلم، وتضرر هذا الإنسان من الحصار كثيراً واستفاد أيضاً، واكتنز أحقاداً وطموحات مكبوتة، وزرع هذا عنده قوة كامنة قد تكون خطرة على جواره وعلى أعدائه مستقبلاً. أي نهضة فكرية حملتها معها العزلة الاقتصادية لداخل المجتمع الإيراني؟ - العزلة كانت تحدياً وتطويراً للصناعة وللثقافة، ولكن قسوة الاستبداد كفيلة بإضعاف تلك الفوائد، أما النهضة الفكرية فلعلها أقوى من النهضة في العالم العربي، لأن الاستبداد في الجانب السياسي عندهم أخف منه في جوانب الفكر، وبعض النهضة الثقافية سبقت الثورة، فتمت ترجمة جيدة لكثير من النصوص الغربية قبل الثورة، وهذا أسهم في معرفة جيدة، وتخلص من عقدة النقص السائدة في العالم الثالث إلى حد ما. ولهذا وجدنا مثقفين إيرانيين من شتى المدارس ينتقدون الأفكار الغربية والكتابات الإمامية، ويجددون في ميادين عدة، ويبحثون عن معرفة وعن حلول لمشكلاتهم من أي مكان، وقد يتردد الفرد بين أكثر من مدرسة من دون حرج، ولعل شريعتي وجلال آل أحمد من الأمثلة المهمة على التحول من اليسار للتدين، وهناك آخرون من القومية للدين ولغيره، وحتى مراجعات أو تراجعات آية الله منتظري، وهناك نهضة عقل أخيراً وبجانبها نهضة تصوف وروحانية. لقاء رجال الدين بالسياسة في إيران .. هل يكفل للمجتمع توازناً روحياً؟ - هذا اللقاء أخرج طبقة محترفة للسياسة بمبررات دينية، يعطيها الدين مشروعية غير مشروعة، وتخفي وراءها ضعف الإنسان ومشكلات الهيمنة، فتجربة الحكومة الدينية لم تكن مفيدة للإيرانيين، بل جلبت على الدين مشكلات ونقداً كان غنياً عنها، والسبب هيمنة جناح متشدد على نتاج الثورة، ومنع أطياف أساسية شاركت في التغيير من نيل حقها، وحرمت من حصاد جهدها وفي تحقيق رؤيتها. ولكن هل الأزمة خاصة بإيران؟ الذي يبدو أن العالم الثالث أو المتخلف سياسياً وعسكرياً لا يستطيع بحرية صناعة نمط حياة معتدل، فهو ما بين مستسلم للغزاة أو مهووس من أنهم سيتدخلون في حياته. وهنا تضعف الروح ويقل الأمن الثقافي ويضعف التوازن الروحي. ولاية الفقيه أحكمت القبضة على المجتمع في إيران، وزادت من الروح التأججية للشعب، هل تنقصنا نحن ولاية لأهل السنة؟ - الإشكالية هنا هي ولاية الدكتاتور في العالم الإسلامي، فتنقص هذه الديكتاتورية من وعي كل بدوره، وتنقص معرفة الحكومة بدورها، وبالتالي ثقة الحكومات بنفسها، أيضاً سؤال المشروعية محرج ويقف فوق الرؤوس دائماً في عالمنا، ما هي المشروعية؟ وما مصدرها؟ وكيف نجد أنفسنا بين سلبيتنا وضعفنا وبين الأقوياء؟ المثقف الإيراني هل تحكمه الطائفية؟ - نعم تحكمه الطائفية، وللأسف فإن مثقفي ما بعد الثورة أكثر انغلاقاً على تراث الشيعة باللغة الفارسية عما كانوا عليه أيام شريعتي، واهتموا أيضاً الآن بالترجمات الغربية، وأدبروا عن الثقافة العربية ربما تهمة عدم الثورة في العالم العربي أثرت، ثم التوترات السنية الشيعية والتوجه القومي في البلاد، ثم بسبب غياب الفلسفة في الثقافة العربية المعاصرة. وبُعد المثقفين الإيرانيين الجدد عن الثقافة العربية، سيُبعدهم أكثر عن العرب وعن الثقافة الإسلامية، وسينبني على هذا تقاطعات سياسية مضرة للطرفين، وتدخلات مضرة بالجميع. الانفصام اللغوي والسياسي عن العربية، هل يزيد من الهوة بيننا وبين المثقف الإيراني؟ - نجوم الثقافة الفارسية الكبار هم من كبار المتعربين، فمطهري وشريعتي وسروش إضافة لسياسيين كالخميني وخامئني كلهم متعربون بدرجة ما، والأخيران ترجما عن العربية فالخميني ترجم نصوصاً لابن عربي وخاميني ترجم لسيد قطب، ورفسنجاني ترجم كتاباً في شبابه عن فلسطين لعادل زعيتر. تقول أنت: «إيران القادمة إن لم تكن علمانية، فستكون أقل تديناً عما هي عليه الآن»، ونحن في العالم العربي ماذا سنكون؟ ولماذا قلت هذا القول عنهم؟ - كل المؤشرات تدل على تراجع التدين في إيران شعبياً ومعرفياً وثقافياً، بل كتب التدين والاجتهاد السياسي والفكري تكاد تقول ذلك بطريقة صريحة وأحياناً ملتوية، ولأن التدين استخدم سياسياً لاستبداد طائفة بالمال والقرار وبتفسير الدين، وبما أن «نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل»، فكيف إذا ولي المال والدنيا وفسر الآخرة لمصلحته، فكلها تعود بنواقظ لأمره. ونحن في العالم العربي إلى حد ما على طريقهم بقليل من العوامل المشتركة، فالحملة ضد التدين هناك أغلبها سجال داخلي، ولو أن الخارج عبر التلفزيون والشبكات يعمل، وهنا العكس فأغلب الحملة بضغط خارجي وبوكلاء محليين، وبعد سبتمبر الدور الداخلي موجود ولكن أضعف. التشيّع موقف سياسي لماذا تعتبر الطائفة الشيعية قتل الحسين وحده من دون مئات من المسلمين قتلوا بالطريقة نفسها، معصية دينية يجب التفكير عنها، ولا بد من إحياء هذه الذكرى وإقامة المياتم؟ - التشيّع في أصله مسألة موقف سياسي، ثم تم توسيع مداه لاحقاً، ومده لميادين أبعد من أصله، وأصبح حاجة لإيقاد الخصومة بين المختلفين أكثر منه حقيقة تاريخية، أضف لهذا أن ثقافة الحزن والعزاء عميقة في ثقافة عراق العجم والعرب، وتم نقله من أساطير وأحزان آشورية وبابلية قديمة وحمل الكثير منه على ظهر الحسين، الذي جاء رمزاً استدعي للانتصار للمظلومية. طقوس الشيعة في المناسبات هل لها مرجعية دينية، أم تسكنها خرافات بليدة؟ - بعضها منذ قديم منذ ما قبل الإسلام كان في المنطقة نفسها، وبعضها مستورد من الهند ومن المسيحية كالتطبير، وبعض كبار العلماء الشيعة يرفض هذه الطقوس مثل محمد حسن فضل الله. كيف حال أهل السنة في إيران؟ هل هم أحسن حالاً من حال الشيعة في بعض بلاد السنة؟ - هم نحو من 20 مليوناً، وليست لهم مكانة تليق بهم لا سياسية ولا اجتماعية، فلا يجدون مناصب تليق بعددهم، وقد ينتقى من الأقليات العرقية لبعض المناصب، ولكن يشترط التشيع في هذه المناصب، فلا تدخل الأقليات الدينية. هل هناك صراع على الدين الإسلامي وريادته في أوروبا بين السنة والشيعة؟ - الصراع المذهبي الإسلامي موجود منذ سنين طويلة، لا جديد فيه، ولكنه أقل حدة مما على الأرض في المشرق بحكم قلة عددهم وقلة ناصرهم. المرأة في إيران تلبس «الجينز» ، ولها نسق خاص، لماذا نحن هنا لا نزال بخلاف ذلك؟ - هناك مظاهر إلزام للمرأة بلباس محدد، كما أن هناك تمرداً واضحاً عليه أو محاولات للتخلص منه من كثير منهن، بجانب هذا أخريات أكثر التزاماً كأي مجتمع، أما الرجم فموجود وينفذونه أحياناً، وللأسف أحكام الشريعة في بعض الأحيان، تنفذ للمزايدات أو بلا مراعاة حكمتها كرادع لا كمسألة تظاهر أو إضرار بشخص مرتكب الإثم. يتقارب لفظا «العادة» و«العبادة»، ويدور حولهما منطق الاستدلال على قصر زينة المرأة على الوجه والكفين، هل حرّم الله سترهما؟ - يبدو أنك تنجح في سوقي إلى أن أمارس الفتيا، والحقيقة أن الأدلة الشرعية وسيرة المجتمع المسلم في بقاعه الواسعة لم تكن المرأة فيه غالباً تغطي الوجه ولا الكفين، وإنني من منطقة في الحجاز قريبة من مكة في حواضر كانت شافعية، ولم يعرفوا تغطية الوجه إلا من قريب، أي منذ ثلاثين عاماً تقريباً. وتغطية الوجه وكشفه عادات قديمة كانت في الجزيرة العربية من قبل الإسلام، واستمرت بلا تحارج بينهما مع مجيء الإسلام، والأولى أن نخفف من الحسم في الأمور التي لم تحسم، ونسمح بالتنوع في أمور نعلم تماماً أن للرأي فيها مجالاً مقبولاً شرعاً وعقلاً، وأن تجربتنا واجتهاداتنا نحن متنوعة، فضلاً عن غيرنا من المسلمين. هل الدين ثورة اجتماعية لا يرحب بها الناس، فكل دين هو عبارة عن نسف لمعتقدات المجتمع، ويقود هذه الثورة شخص عادي، مجرد من القوة والنفوذ، ولا جيش ولا سلطة ولا مال، وكل سلاحه وعود غيبية لا تثبت إلا بمحسوسات؟ - هذه تفسيرات لاحقة للديانات، ونوع من تحكم الحاضر في الماضي، وهي رغبة فكرية يقدرها من يتأملها ويعذر قصور محاولتهم، ولكنها فكرة لا يسلم بها، بسبب تنوع الديانات، وطبقات الأنبياء من مختلف طبقات المجتمع، فالإنسان كائن من علامة رقيه في إنسانيته غيبيته وحدسه وأحلامه، والوحي الذي يحدث لناس منه، إن تجاوز العقل والروح للمحسوس هبات إلهية لا تضبط ممن لا يصدقها ومن لم يجرب شيئاً منها، أو من وضع عقله مقياساً وحيداً للبشرية، نعم لا نسلم لبعضنا إلا بما يمكننا دركه. ولكن إن وجد في مجتمع ما غالبية مؤمنة بقضية، فهذا عقلها وهذه حياتها، وغالبية البشر مؤمنة بالغيب بطريقة ما. ولا أظن عقول البشر خرافية دائماً، لأنها تخالف من لا يؤمن بالوحي، ونعم في الدين ثورة اجتماعية كما فيه ثورة روحية على النوازع الطينية لبعض البشر، فترفع مستواه أو تحاول. المتاجرة بالدين هي أكثر حرفة تدر الأرباح الدنيوية، من دون رأسمال مستثمر ولا مخاطرة محسوبة، كيف ترى الدعاة والإعلام هذه الأيام؟ - نعم هناك من يتاجر بالدين دائماً، وهناك من يخدم به المجتمع، ويرقيه ويجمعه ويسل منه سمومه، ولكن لعل هذا القول منك غير دقيق في ظرفنا هذا، فأكبر حرفة في البلدان الخاضعة للغرب هي حرفة الوسطاء ودعاة الاحتلال ومزيني هيمنته، فهم يتمتعون بعائدات هائلة، وبمكانة أكبر نفوذاً وتأثيراً بحكم قوة الغرب الداعم لأتباعه، أما الدين فدعمه ذاتي شعبي عميق في قلوب الناس. ولو عرفت قليلاً عن أثر الكنائس في الحياة الأميركية تحديداً لتعجبت، فهي قد تصنع الرؤساء، مثل بوش وقبله ريجن، وتصنع السياسة الخارجية، التأييد للصهيونية في أميركا أصبح مرتكزاً على الدين، وكنائس أميركية محددة هي من يقود تمزيق السودان واقتطاع الجنوب ليكون مسيحياً. أما هذه الظاهرة فهي ضعيفة في المجتمعات العربية، بسبب ضعف المتدينين وضعف مؤسساتهم، وبناء بنية متشددة ضد المؤسسات الدينية في الحكومات التابعة في العالم الإسلامي لأسباب عدة، واستغلت قصة الإرهاب لتصفية عداوات تاريخية قديمة جداً. المتدينون والتشدّد مصطلح «أولي الأمر» ورد مرتين في القرآن الكريم، وكلتا المرتين في سورة النساء، وتأول الشيعة والسنة معناه كل على هواه، فهو عند الفئة الأولى الأئمة ال12، وعند السنة الحكام أو رجال الدين عند متشدديهم، ألا يمكن أن يكون أولو الأمر هنا هم أصحاب الخبرة والشأن، الذين يملكون ملكة الاستدلال على خيرية الأمر؟ - وصف التشدد في السؤال يحتاج أن يكون منصفاً، فلماذا يوصف المتدينون بالتشدد، ويبعد هذا الوصف إذا جاء الحديث عن المتشددين في خصومتهم لهم؟ فعندنا متشددون في التدين ومتشددون في التغريب، ومتشددون في الوكالة للغزاة، ومتشددون في خطاب العدل، ومتشددون في خطاب الحرية، فمن صدق مع فكرته، فليعدل مع فكرة غيره، وهنا نصل إلى اعتدال. ولا يقوم خطاب الفكر على التعيير، بل فقط خطاب الحشد هو من يعتمد القسوة اللفظية. ثم موضوع السؤال هو اصطراع قديم قدم السياسة المشدودة في المجتمع الإسلامي بين العلماء والحكام، فالقول بأن أولي الأمر هم العلماء أذكر من أول من قال بهذا الإمام مالك، وكان في خلاف مع السلطة زمناً، واتهم بمحاباة الثوار أو الميل إليهم، والحقيقة أو المخرج من صراع تاريخي أن ولاية الأمر للأمة في من تختاره لإدارة بعض شؤون حياتها. عندما نشأ الفقه نشأت معه فكرة تبجيل المشتغلين به، فنراهم في مرحلة ما تحوّلوا إلى «مشرعين» لا تستعصي عليهم أي فتوى، كيف ترى السيل الهادر للفتاوى هذه الأيام؟ - هناك مبالغة في تحميل المفتين أدواراً أكثر من إمكاناتهم، وتركيز على شل القدرات الفردية للإنسان، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، أما اليوم فيقولون استفت شيخك وغادر أو سلم قلبك وعقلك أو ضميرك. التعامل مع الفتوى ليس بمنع إصدارها، بل التوعية العامة ونشاط المساجد والخطب والتوعية الدينية هي من سيخفف ويعيد المعرفة والضمير للمفتي والمستفتي، ثم إن هناك تدخلات خارجية كثيرة ترهق المجتمع في تحديد علاقاته وحتى في مسائل كالفتوى. تطالعنا هذه الأيام هوجة الحديث والنيل من الصحابة، هل ترى أن هناك خطأ في نقد أخطاء بعضهم؟ - مسألة القدوة في المجتمعات البشرية مسألة فطرية، فمن بنى لك مجداً يصعب على النفس قبول إهانته، هذا في حياة الناس العادية، وفي أميركا عصابة شبه مقدسة يسمونها «الآباء المؤسسين» بناها الجمهورية وكتبة الدستور، فكيف لا يرفع المسلم من قدر ومكانة جماعة حملوا الإسلام، وأسسوا كيانه وأيّدوا النبوة وضحوا وبنوا أمة هي اليوم ثلث البشرية، ونشروا لغة يعرفها نحو 400 مليون، وكتب بها تراث بشري هائل، أظن أن الإنسان الذي يحترم إنسانيته ولو لم يكن مسلماً لا يملك إلا تقدير أولئك الهداة، وعقدة انتقاص القمم الإنسانية مرض وشعور بالصغر، وليست دلالة على معرفة ولا عقل. كيف نصل لربط الإسلام بتشريعاته لا بربطه بتصرفات من انتسب إليه من بشر؟ - دائماً لدى الإنسان الاستعداد للانحراف أو لأقول الاستعداد للمزج بين الفرد والفكرة، ولديه في مقابل ذلك العقل الذي لو أوقده لاستطاع أن يساعد نفسه في الفصل ما بين الفكرة والفرد، مع أنه ليس هناك من انفصال تام، ونعلم أن الفرد النابه كثيراً ما يغوي بشخصه عن درك الحقيقة، فيتبعه الناس لشخصه متوهمين أنهم فقط مدفوعون بفكرته، وكذا الجماعة أو الطبقة. ولكن من المهم إبقاء المحاولة دائماً حية في الفصل بين الأشخاص والأفكار، وهذه قضايا فلسفية قديمة وجددها نقاش الشيوعيين ومنهم بليخانوف، بشكل عرضي وهو يناقش قضايا قريبة، وناقشها مالك بن نبي باهتمام في بحثه عن الفكرة المجردة والفكرة المشخصة، وكان يميل إلى تجريد الأفكار عن الأشخاص وتربية الناس على التمييز بينهما. وفي مجالنا الإسلامي وفي مجال القدوة والاتباع والسوابق في القانون كلها تشير إلى هذه الفطرة الخالدة في نفسية الإنسان أنه يحاول يتبع وألا يبتدع، وهنا مبالغة كبيرة عند بعض المسلمين في الفكرة. رجال الحسبة قديماً، و«المطاوعة» يسمون الآن بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا المصطلح هل ترى له دلالة عظيمة من باب إسباغ أفعال المحتسبين بصبغة دينية كبيرة؟ - الاسم عظيم الدلالة ومحترمها، وينبع من نص قرآني، وليس بالضرورة أن يكون ملتزماً بالاسم كأي أعمال الناس، أما وجوده فكل المجتمعات تحرص على حماية نفسها بشرطة جريمة وشرطة أخلاق، وغالباً تدمجهما في جهاز واحد. والفرق أن المجتمع المدني ميت عندنا، وكل صاحب مخالفة يكره من ينكر عليه مخالفته، سواء كانت رقابة أخلاقية أو مالية في البلدان التي يراقب فيها المال العام أو التصرف المضر بالمال الخاص، والشعار جميل، وحبذا أن يكون السعي جماعياً لنيل أحسن مستوى تتفق فيه الشعارات مع الأعمال. ولأن كل مظاهر وعبارات الهوية الدينية في المجتمعات الإسلامية مصوبة عليها السهام الناقدة، فيظهر خللها ويقل التركيز على وجوه فساد كبير، ثم هي محدودة التأثير والصلاحيات، فمن قال إن تلك المظاهر هي المنكر، وإن ما هو أكبر ليس منكراً. ليس في الإسلام قانون يقضي بمعاقبة من يعصي الله في السر، بهذا القول أين تتحدد شرعية الهيئة؟ - الهيئة حدودها في المجاهرة أو ما اشتكي إليها كأي شرطة أخرى، أما السر في القلوب فلله وحده، والبيوت حرمات الناس.