الأرجح أن بعضاً من قرّاء مجلة «الإيكونومست» البريطانية يصعب عليهم نسيان ذلك الغلاف الذي ظهر فيه التمثال المعروف باسم «الإنسان المفكر» للنحّات الفرنسي أوغست رودان، وهو «جالس» على مرحاض! وآنذاك، خصّصت المجلة المحور الرئيسي فيها للإجابة عن السؤال الذي شكّل العنوان الرئيسي على ذلك الغلاف عينه: هل ابتكرنا شيئاً أكثر جدوى منه ( المرحاض)؟ وبعد وقت غير بعيد من ذلك الغلاف المثير، كرّرت المجلة عينها الخوض في المقارنات المثيرة عن تاريخ العلم، إذ كرّست عدداً كبيراً من صفحاتها لمحاولة تملس إجابة عن سؤال مهم: بماذا نخرج عندما نقارن علميّاً الفترة الممتدة بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وبين ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة؟ فقد أسّست الحقبة الأولى للعيش المعاصر المتقدّم عبر اكتشاف (ثم توظيف وانتشار) الكهرباء وخطوطها، والقطار وشبكاته، والسيّارة وطرقها وأوتوستراداتها، والطائرة وأنواعها، والغواصة وسبرها أعماق البحار، والتلغراف وشبكات تبادل البرقيات عبر العالم، والراديو ومحطاته وإذاعاته، والهاتف وشبكاته، والتلفزيون وأقنيته، والصاروخ وأنواعه، وآلة تسجيل الأصوات، وأسطوانات ال «فينيل» السود للموسيقى والأغاني، والبطاريات بأنواعها، والسفن الميكانيكيّة، ونظرية الذرّة، وعلم النفس الحديث، والنظرية الكمومية (التي تعمل بموجبها حاضراً الابتكارات الرقمية بمعظمها وضمنها الإنترنت) ونظرية إينشتاين في النسبية، ونظرية الأميركي إدوين هابل عن توسّع الكون و...غيرها. ماذا لو قارّناها بثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، مع ما تتدفق به من أجهزة وشبكات وبث رقمي عبر الأقمار الاصطناعية وأجهزة ذكية وكومبيوترات خارقة وغيرها؟ واستنتجت الصحيفة من تلك المقارنة أن الفترة الراهنة لم تُغيّر حياة البشر بالقوة التي فعلت بها الحقبة الأولى! العقل النقدي أولاً ليس مهماً أن نعرف النتيجة التي توصّلت إليها تلك الصحيفة، وهي قابلة للنقاش. ما يثير فعلياً هو السؤال نفسه. إذ يعني أن المجمتعات الصناعية الحديثة تتعامل مع إنجازاتها في الماضي، عبر مقارنتها مع... الحاضر، وأساساً عن استمراريتها. لا ميل هناك لتحويل انجازات علماء الماضي إلى «عبادة» مُضمَرَة، بمعنى الجمود أمامها وتمجيدها وانعدام الجرأة ليس على نقدها، بل على طرح الأسئلة الأبسط عنها. لماذا لم يستمر ما ابتدأه العرب ماضياً؟ ما هي الخلاصة من مقارنة حاضر توقّفت فيه معظم عقول العرب عن الابتكار علمياً، فتحوّلوا إلى مجرد مستهلكين للعلم والتقنية؟ في الغرب، حاضر الابتكار يسأل نفسه عن مدى قدرته على التأسيس للمستقبل، عبر تذكّر أنه تأسس على إنجازات الماضي. عندنا: تفاخر متحجّر يكتفي باجترار الماضي، بل يصل إلى حدّ العصاب المرضي حين يُسقِط تفاخره على نظرته إلى «الآخر» في الغرب، بصورة تفضح التخلف وعقدة النقص! أليس تحجّراً وتخلّفاً أن نقول إن أوروبا «أخذت» علوم العرب وطوّرتها، ولا نتذكّر أننا لم نستطع أخذ علوم أوروبا وتطويرها، بل صرنا خارج المسار المتسارع ضوئيّاً للعلوم والتكنولوجيا؟ لا يكتفي ذلك التفاخر الزائف بالتحجّر، بل لا تتردّد بعض الأفواه المُزبِدَة في الوصول الى خلاصة تشبه القول «إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صَلُح به أوّلُه»! هل يصح ذلك فعليّاً؟ هل إذا رجعنا إلى مرحلة القرون الوسطى في العلوم والتقنيّة، وضربنا عرض الحائط بقرون من التطوّر العلمي والتقني، نقفز إلى صدارة التطوّر؟ لماذا يصرّ الغرب على متابعة الابتكار عندما ينظر الى الماضي استناداً الى الحاضر وتطلّعاً الى المستقبل، وليس بالاجترار المتكرّر للزمن وأمثولاته؟ لماذا لا يتذكر من يجتر «الماضي المجيد» أنه مجد أُنجِز بانفتاح العقول والأيدي وتنوّعها الذي شمل كل الأديان والمذاهب والشعوب التي عاشت ضمن الحضارة العربية- الإسلامية، وبانفتاح على حضارات الشعوب كافة، من الهند والصين وصولاً إلى اليونان؟