في سياق الحوار الذي أداره أخيراً الموقع الإلكتروني لقناة «العربيّة» باللغة الإنكليزية عن «العرب واستعادة الانهمام بالعلم»، بدا أن الكلام المكرّر عن الاعتزاز بالماضي، يحمل كثيراً من الزيف والابتعاد عن الواقعيّة. ويزيد الزيف عندما يصبح مدخلاً لخطاب منتفخ ذاتياً، غالباً ما تلقيه وجوه محتقنة بأوردة منتفخة من شدّة الصراخ، مع تقطيب قوي يزيد مظهرها صرامة، ولا أعرف هل أنها مفتعلة أم أنها تصدر عن قناعة ترسّخت... ربما من دون نقاش عميق؟ لعل كلماتي جارحة. ربما أغضبت البعض. ربما فُسّرت بهذه خطأً. أُفضّل أن أبدأ الكتابة عن العنوان بصورة مقلوبة، ربما انسجاماً مع الأوضاع الراهنة عربياً، خصوصاً في العِلم. قبل سنتين، خصّصت مجلة إنكليزية بارزة محوراً ضخماً لمحاولة ملامسة سؤال مهم: ماذا نخرج عندما نقارن علميّاً الفترة الممتدة بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وبين ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة؟ أسّست الحقبة الأولى للعيش المعاصر المتقدّم عبر اكتشاف (ثم توظيف وانتشار) الكهرباء والقطار والسيّارة (مع شبكاتها وطرقها وأوتوستراداتها) والطائرة والغواصة والتلغراف والراديو والهاتف والتلفزيون والصاروخ والمسجّل والأسطوانات ال «فينيل» والبطاريات والسفن الميكانيكية ونظرية الذرّة وتأسيس علم النفس الحديث والنظرية الكمومية (التي تعمل بموجبها حاضراً معظم الابتكارات الرقمية وضمنها الإنترنت) ونظرية أينشتاين في النسبية، ونظرية هابل عن توسّع الكون و...غيرها. وعي الماضي ماذا لو قارنّاها مع ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، مع ما تتدفق به من أجهزة وشبكات وبث رقمي عبر الأقمار الاصطناعية وأجهزة ذكية وكومبيوترات خارقة وغيرها؟ واستنتجت المجلة من تلك المقارنة أن الفترة الراهنة لم تُغيّر حياة البشر بالقوة التي فعلت بها الحقبة الأولى! ليس المهم النتيجة التي توصّلت إليها تلك المجلة، وهي قابلة للنقاش. ما يثير فعلياً هو السؤال نفسه، إذ يعني أن المجتمعات الصناعية الحديثة تتعامل مع إنجازاتها في الماضي، عبر مقارنتها مع... الحاضر، وأساساً عن استمراريتها. لا ميل لتحويل إنجازات علماء الماضي إلى «عبادة» مُضمَرَة، بمعنى الجمود أمامها وتمجيدها وانعدام الجرأة ليس على نقدها، بل على طرح الأسئلة الأبسط عنها. لماذا لم يستمر ما ابتدأه العرب ماضياً؟ ما هي الخلاصة عن مقارنة حاضر توقّفت فيه عقول العرب (معظمهم) عن الابتكار علمياً، فتحوّلوا مجرد مستهلكين للعلم والتقنية؟ في الغرب، حاضر الابتكار يسأل نفسه عن مدى قدرته على التأسيس للمستقبل، عبر تذكّر أنه تأسس على إنجازات الماضي. عندنا: تفاخر متحجّر يكتفي باجترار الماضي، بل يصل إلى حدّ العصاب المرضي حين يُسقِط تفاخره على نظرته إلى «الآخر» في الغرب، بصورة تفضح التخلف وعقدة النقص! أليس تحجّراً وتخلّفاً أن نقول أن أوروبا «أخذت» علوم العرب وطوّرتها، ولا نتذكّر أننا لم نستطع أخذ علوم أوروبا وتطويرها، بل صرنا خارج المسار المتسارع ضوئيّاً للعلوم والتكنولوجيا؟ لا يكتفي ذلك التفاخر الزائف بالتحجّر، بل لا تتردّد بعض الأفواه المُزبِدَة في الوصول إلى خلاصة تشبه القول ب»إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صَلُح به أوّلُه»! هل يصح ذلك فعليّاً؟ هل إذا رجعنا إلى مرحلة القرون الوسطى في العلوم والتقنيّة، وضربنا عرض الحائط بقرون من التطوّر العلمي والتقني، نقفز إلى صدارة التطوّر؟ لماذا يصرّ الغرب على متابعة الابتكار عندما ينظر إلى الماضي استناداً إلى الحاضر وتطلّعاً إلى المستقبل، وليس بالاجترار المتكرّر للزمن وأمثولاته؟ لماذا لا يتذكر من يجتر «الماضي المجيد» أنه مجد أُنجِز بانفتاح العقول والأيدي وتنوّعها الذي شمل كل الأديان والمذاهب والشعوب التي عاشت ضمن الحضارة العربية- الإسلامية، وبانفتاح على حضارات الشعوب كافة، من الهند والصين ووصولاً إلى اليونان؟