حجز الشرطي محمد الباي لاسمه موقعاً متقدماً في سجل «شهداء الشرطة»، إذ قاد قتله في مواجهة مع مسلحين في مدينة أسنا في الأقصر إلى كشف أخطر خلايا تنظيم «داعش» في العمق المصري، وهي الخلية المسؤولة عن تنفيذ غالبية الهجمات الدامية التي شهدتها مصر العام الحالي. ما حدث في أسنا يُمكن أن يُسجَّل درساً في العلوم الشرطية عن حالات الاشتباه، فالصدفة وحدها قادت أجهزة الأمن إلى كشف الخلية التي أرهقت دوائر وزارة الداخلية إلى حد إعلانها مكافآت مالية سخية لمن يُدلي بمعلومات تُفيد في توقيف أعضائها. لكن مرت شهور وتوالت الهجمات المؤثرة إلى حد كبير، من دون الوصول إلى أي خيط يؤدي الى ضرب مركز تلك الخلية التي يقودها عمرو سعد عباس. تلك الخلية ركزت هجماتها ضد المسيحيين ودور عبادتهم مستهدفة بوضوح النسيج الوطني في مصر عندما فجر انتحاري ارتدى حزاماً ناسفاً الكنيسة البطرسية الملحقة بالكاتدرائية المرقسية، مقر إقامة البابا في قلب القاهرة، في هجوم قُتل فيه عشرات مطلع العام. وبعد أسابيع، فجرت الكنيسة المرقسية في الاسكندرية وكنيسة «مار جرجس» في طنطا بتفجيرين انتحاريين في يوم واحد، ما أسفر عن قتل عشرات المسيحيين، فضلاً عن المكانة الرمزية للكنيستين كونهما رمزين للمسيحية في الشمال وفي الدلتا. وبعد أسابيع أخرى، قتل مسلحون عشرات المسيحيين في صحراء المنيا خلال توجههم إلى دير في قلب الصحراء في رحلة دينية. ومع كل هجوم، كانت أجهزة الأمن تستنفر في نشر صور أفرادها في محاولة للوصول إلى أي معلومات تقود إلى توقيفهم، لكنهم كانوا يمارسون تدريباتهم ويعدون خططهم بعيداً من أعين البشر في كهوف الجبل الغربي في قلب الصحراء الغربية لجهة الجنوب. وبينما كان اثنان من أفراد الخلية يستقلان سيارة متوقفة على جانب الطريق في أحد ميادين مدينة أسنا في الأقصر بانتظار شخص ثالث يفترض أنه يحمل خرائط لدير في صحراء الأقصر حُدد هدفاً جديداً لهجمات تلك الخلية، ساور شك الشرطي محمد الباي الذي كان ضمن قوة مكمن أمني متحرك يتفقد الحالة الأمنية في المدينة، فالسيارة متوقفة في المكان ذاته منذ فترة، وهي سيارة غربية تحمل لوحات معدنية تابعة لمحافظة الغربية، فاتجه نحوها لسؤال سائقها عن سبب توقفه في هذا المكان، لكنه لاحظ فوهة سلاح آلي في حوزة شخص يجلس بجوار السائق، ويخبئه بقطعة قماش، فحاول الإمساك بمسدسه سريعاً لمنعه من استخدام السلاح الآلي، لكن المُسلح كان أسرع، فأخرج سلاحه وأمطره بالرصاص، قبل أن يخرج من السيارة مسرعاً ويطلق الرصاص عشوائياً ليقتل أحد المارة، ثم يفر وسط الجموع. هذا الشخص هو عمرو سعد عباس، أخطر قائد ميداني يتبع تنظيم «داعش» خارج شبه جزيرة سيناء. وطاردت قوة المكمن الأمني السائق إلى أن حاصرته بمساعدة الأهالي في أحد الأسواق وأوقفته، واكتشفت في السيارة قنبلة يدوية وحزاماً ناسفاً. وفي تلك الأثناء، تمكن عباس من إيقاف سيارة أجرة عنوة، وأجبر سائقها على نقله إلى منطقة جبلية في قنا ليختفي أثره بعدها. أما زميله، فأرشد أجهزة الأمن عن موقع البؤرة التي كان ينتمي إليها في جبل «أبو تشت» غرب قنا، فاصطحبته الشرطة، بحراسة من رائد في الأمن المركزي، من أجل ايصال قوة الدهم إلى المغارة التي يختبئ فيها زملاؤه. ولما دهمتها، قتل المسلحون زميلهم والضابط المكلف حراسته، فيما قتلت الشرطة اثنين من المسلحين، وفر المتبقون، فحاصرت قوات الأمن بعد أن دفعت بآلاف الجنود والضباط مداخل الجبل الغربي ومخارجه في محافظة قنا، وتمكنت من قتل 3 مسلحين من فلول تلك الخلية الذين استولوا على سيارة من سائقها تحت تهديد السلاح وفروا بها في الجبل، في عمليتين منفصلتين، بينهم انتحاريان كان واحد منهما يسعى إلى تفجير نفسه في مكمن مكلف مراقبة أحد الدروب الصحراوية المتصلة بالجبل الغربي. وقال مصدر أمني ل «الحياة» إن اعتقال السائق الذي كان برفقة عباس في أسنا قاد إلى خلية تابعة لمجموعته. لكنه أشار إلى أن معلومات أجهزة الأمن تشير إلى أن عباس يقود خلايا عنقودية عدة منفصل بعضها عن بعض وتعمل انطلاقاً من الجبل الغربي، وفي الغالب هو فقط الذي يعرف خريطة تلك الخلايا، وعلى الأرجح أفراد كل خلية لا يملكون معلومات عن بقية الخلايا. لكن المصدر أكد في الوقت ذاته أن الوصول الى خلية «جبل أبو تشت» أجهض هجمات كُبرى كانت تعد لها تلك المجموعة، خصوصاً أن هذه الأيام تشهد احتفالات المسيحيين بقدوم العائلة المقدسة إلى مصر، وتُقام احتفالات وصلوات في أديرة مهمة في الجبل الغربي تحديداً، كونها ضمن مسار رحلة العائلة المقدسة في مصر. وأشار إلى أن المعلومات التي في حوزة أجهزة البحث تشير إلى أن عباس فقد السيطرة على أعضاء الخلية، ولم يعد هناك ثمة تواصل بينهم بعد أن فوجئوا بالهجوم عليهم، فيما هو في الغالب فر إلى مكان آخر بعيداً من الأماكن التي يعلمها السائق المعتقل، فهو في الغالب توقع أن يرشد الأخير عن مكان المسلحين في جبل أبو تشت، لكنه على الأرجح ما زال مختبئاً في الجبل الغربي، اذ أجبر سائقاً تحت تهديد السلاح على نقله إلى منطقة قرب الجبل الغربي لقنا. وأشار إلى أن تلك الخلية كانت تختبئ في مغارة قريبة من مدق جبلي يؤدي مباشرة إلى الصحراء الليبية، والمعلومات تشير إلى أن تلك الخلية حصلت على أسلحة متقدمة من الجماعات المتطرفة في ليبيا، وأن خطوط اتصال متطورة ظلت مفتوحة بين تلك الخلية وهذه المجموعات، لكن بعد دهم موقعها تم قطع تلك الاتصالات، في محاولة من هذه الخلية للتماسك وإعادة تشكيل ذاتها بعد الضربة الأمنية التي تلقتها. وشدد المصدر على أن أجهزة الأمن التي تفرض طوقاً أمنياً محكماً على الجبل الغربي لن تسمح بتوفير ملاذ آمن للمسلحين من جديد. من جانبه، قال الخبير في شؤون الحركات الإسلامية الدكتور ناجح إبراهيم ل «الحياة» إن ضرب خلية «داعش» في الصعيد يمكن أن يمثل «بداية النهاية» لوجود التنظيم المتطرف في الجنوب. وأشار إلى أن الأمن المصري «لا يترك الفرصة دائماً»، والأمر كله كان بانتظار معلومة أو خطأ من أحد مسلحي التنظيم للوصول إلى بقية عناصره. وأضاف أن أجهزة الأمن تمكنت بعد استجواب المسلح الذي تم توقيفه في أسنا، من اقتفاء أثر الخلية في منطقة شديدة الوعورة، وفي الغالب باتت في حوزتها معلومات عن كيفية إمداد المسلحين بالدعم اللوجيستي من سلاح وغذاء وماء، وستستمر في حصار المنطقة حتى تقضي على أي وجود لمسلحين في الجبل الغربي.