بعد جولات طويلة في مناطق مختلفة من العالم، وصلت خزار فاطمي- معدة البرنامج التلفزيوني السويدي «الثقافة في المناطق الخطيرة»- الى العراق لتُعاين أحوال الثقافة فيه عبر لقاء بعض الأشخاص ممن يحاولون الحفاظ على مورث تلك الحضارة العريقة. ولأنّ المكوث في بغداد وغيرها من المدن العراقية محفوف دائماً بالأخطار، جاءت المعدة برفقة فريق عملها لتصوير جوانب مختلفة من الحياة الثقافية في مدينة لم يعد يسمع العالم عنها سوى أخبار الموت وفظائع «داعش» والمفخخات. لذا تحصنت في طريقها براً من الأردن الى بغداد داخل سيارة مدرعة وارتدت واقية رصاص وذهبت مباشرة الى مدينة بابل لتقابل هناك باحثة آثار عراقية تعمل في هذا المجال، على رغم صعوبة الظروف المحيطة بها، من أجل الحفاظ على الإرث التاريخي لواحدة من أكبر الحضارات الإنسانية. تهدف زهراء تحسين الى إقناع منظمة اليونسكو بإدراج مدينة بابل وبوابتها الشهيرة ضمن لائحتها للتراث العالمي. في الطريق الى بابل، تحدثت تحسين عن سبب اختيارها دراسة علم الآثار وعن معنى العمل على إعادة الحياة للمدينة ذات التاريخ البعيد، فقالت: «نريد إعادة الحياة الى بابل لأنها جزء من الموروث الثقافي العراقي الذي يؤثر في حاضره ومستقبله. أعتقد أن كل حدث في الماضي له تأثيره في الحاضر والمستقبل أيضاً. إعادة الحياة والنشاط السياحي المعرفي يوجه رسالة مهمة الى العالم بأننا مصرون على الحياة وأن الإرهاب لا يُخيفنا ولا يقطع تواصلنا الحضاري». توضح خلال جولتها بصحبة معدة البرنامج في المدينة سبب تعنت اليونسكو في عدم إدراجها ضمن لائحتها على رغم عظمتها، فتقول: «السبب يعود الى التشوهات التي أحدثها صدام حسين في بنائها التاريخي. لقد أعاد بناء بعض جدرانها بمواد بناء جديدة فأتلف قيمتها التاريخية، والأكثر مدعاة للسخرية استبداله الأحجار الطينية التي كتب عليها الملك نبوخذ نصر اسمه بالحروف المسمارية قبل آلاف السنين بأخرى جديدة كتب عليها بالعربية اسمه وأضاف أنه هو من بنى بابل!». تترك خزار الموقع الأثري متأثرة، على أمل بالعودة اليه ثانية لحضور حفلة ثقافية وفنية تُنظّم على مسرحه الشهير بعد أيام قليلة، ويُنتظر حضور جمهور واسع اليه. خرجت الصحافية من بابل بانطباعٍ يُفيد بأن قوة الأمل عند العراقيين هي ما يُزيد من تشبثهم بالحياة. في بغداد، وحالها حال معظم المراسلين والصحافيين الغربيين، توجهت مباشرةً الى شارع المتنبي، الشريان النابض في الحياة الثقافية البغدادية. وفي مكتبته، التقت الشاعر أدهم عادل وحصل حوار مطول معه عن الثقافة والتهديدات التي تواجهها من المتشددين. رافقته كاميرا البرنامج الى قاعةٍ ألقى فيها قصيدة من الشعر الشعبي، وصورت الجمهور المتفاعل معها. في الخارج وقرب تمثال المتنبي عبّر الشاعر عن أفكاره وإيمانه بقوة الثقافة في تحقيق التغيير الاجتماعي، وإصراره على البقاء في المدينة من أجل الذين يؤمنون به شاعراً تفاعلياً. الحياة في شارع المتنبي تعكس رغبة في التلاقي بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية. وتُشكّل مقاهيها علامة على ذلك الطموح في الاجتماع الغائب عن الحياة العراقية. بعدها، ذهب الفريق الى كلية الإعلام لمقابلة الإعلامية والناشطة ريا عاصي، التي سبق لخيزار أن تعرفت عليها في السويد. وكانت المثقفة العراقية قصدت السويد كلاجئة اضطرت الى ترك وطنها خوفاً على حياة ابنها وعلى حياتها المهددة أيضاً، ولكن بعد مدة قررت العودة ثانية الى وطنها والعيش فيه. دعت فريق العمل الى شرب الشاي العراقي في مقهى الشابندر. حكت لهم عن المقهى العريق وكيف كان- وكيف ظل حتى اللحظة- ملتقى للمثقفين على اختلاف مشاربهم. مقهى لا يميز بين زبائنه نساء كانوا أم رجالاً، لأنّ أصحابها أرادوها حرة. لكنّ ثمن الحرية في العراق غالٍ، وقد دفع صاحب المقهى بعضاً منه. بلوعة وحزن أخبرها عن خساراته الجسيمة في الانفجارات الرهيبة التي طاولته وأدت الى وفاة أربعة من أولاده وأحفاد له في مطبعة لهم في الشارع نفسه. ومع كل حزنه، اعتبر استمرار توافد الناس والمثقفين على مقهاه تعويضاً عن خسارته الكبيرة. في بابل التي عادوا اليها بعد جولتهم في بغداد، اضطر فريق العمل السويدي للمخاطرة وأخذ الطريق الذي تعرض للتفجير قبل ساعات من بدء الحفلة الفنية. أصرّوا مع عالمة الآثار العراقية على الوصول الى المسرح وتصويره. مشهد الفرق الفنية أعاد الى ذهن الصحافية السويدية ذكرى تاريخ طويل قراته عن حضارات عظيمة شهدها العراق، ومازالت آثارها باقية وتمكن ملاحظة امتداداتها بسهولة من خلال جمهور أصر على الحضور، على رغم كل ما يتوقعه من أخطار. فالثقافة اليوم، وفي إطار الظروف التي يعيشها البلد ربما، أصبحت بالنسبة اليهم المصدر الوحيد الذي يمكن الرهان عليه لمواجهة موجات الخراب.