في غمرة احتفاء المصريين بثورة «25 يناير»، ربما لا يتذكرون ما طمره النسيان من تاريخهم المديد من احتجاجات وثورات على الاحتلال والطغيان والعوز والمسكنة، لو وُضع بعضُها فوق بعض لتلاشى الاعتقاد الزائف بأنهم شعب يصبر على الضيم صبراً طويلاً، أو أنه ضحية لثقافة سياسية سلبية ترسبت في العقول والنفوس إما بفعل الفرعونية السياسية، حيث تأليه الحاكم في مصر القديمة، أو بحكم متانة الدولة المركزية وقوتها، لتحَكُّمِها في موارد الري في بلد زراعي، ثم في مصادر الدخل والثروة، أو من جراء الجغرافيا التي أهدت مصر وادياً ضيقاً منبسطاً سهْلَ التحكم في تفاصيله وناسه، وصحراء جرداء الهارب إليها لا محالة هالك، أو حتى بفعل الفهم الخاطئ للدين، الذي يخلق نوعاً من الخنوع والخضوع والاستكانة، وتأجيل “الحصاد” إلى العالم الآخر. ويكفينا برهاناً على هذا، أن أول ثورة في تاريخ الإنسانية جرت على ضفاف النيل العظيم، وكانت من الشمول والقوة إلى درجة أنها هزت ضمائر وأثارت اندهاش كل من فتشوا في ماضي مصر ووثائقها، باعتبارها أول دولة عرفها البشر. وكان السبب الرئيس لهذه الثورة العارمة التي وقعت خلال فترة حكم بيبي الثاني، هو تفشي الظلم واتساع الهوة بين الطبقات، حيث كانت هناك قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعاني من قسوة الجوع البالغ أقصى مداه، حيث أكل الناس العشب، واكتفى بعضهم بشرب الماء، حتى عَزَّ على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه، بعد أن نفدت الغلال من الصوامع، وتُركت الماشية تهيم على وجوهها، فهجم الناس عليها وذبحوها والتهموها حتى فنيت. وكذلك وصل الأمر إلى حد أن الناس كانوا يخطفون القاذورات من أفواه الخنازير. ومات خلق كثر، ملأت جثثهم الشوارع والنهر، حتى أصبحت التماسيح تزاور بعيداً منها، بعد أن أكلت حتى الشبع. وحين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور الحكام والأثرياء، فقتلوا قاطنيها، ونهبوا ما فيها، وأشعلوا النيران في كثير منها، وصار الشعار الذي يسري في البلدات الرابضة على ضفتي النيل هو: “لِنُقْصِ أصحابَ الجاه من بيننا”. وفي أتون هذه الفوضى، سقط الحكم، بعد أن انهارت الدواوين والمحاكم ونهبت سجلاتها، وذُبح كبار الموظفين، وصار من بقي منهم على قيد الحياة بلا كلمة مسموعة، وعاشت مصر بلا حكام لمدة تصل إلى ست سنوات، فانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة، ولم ينج قصر الملك نفسه من النهب. ومنذ هذه الثورة العارمة ومصرُ لم تهدأ، على رغم ظاهرها الذي فسرناه كثيراً بأنه سلسلة من السكون والخمود، لكن الحركة المصرية هذه لم تأخذ طريقاً واحدة، إنما تنوعت بين الثورات والهبّات والتمرد، وبين العناد والعصيان والمقاومة والإصرار الصارم على التمسك بالثوابت الوطنية، على رغم تعاقب المحتلين، بل استدراج هؤلاء رويداً رويداً حتى يذوبوا في الروح الثقافية المصرية القوية. وهذه الروح جعلت مصر تحافظ على استقلالها الكامل لزمن مديد يربو على ثلاثة آلاف وخمسمئة عام من عمرها المعروفةِ وقائعُه لدينا، والذي يصل إلى خمسة آلاف عام. وهذا الاستقلال إما كان مصرياً خالصاً حكمت فيه البلادَ أسرٌ منها، أو أسرٌ أجنبية تمَصَّرت وتشرَّبت روح هذا البلد العريق، وأدركت أنه أمة كاملة، ولذا قطعت تقريباً الحبل السري بينه وبين الإمبراطورية الكبيرة، أو خففته حتى صار رفيعاً واهياً. وقد حدث هذا أيام الإغريق والرومان، وفي زمن العباسيين والعثمانيين. وكان هذا الاستقلال في جله الأعظم ثمرة لروح مصر الوثّابة، أو ثورتها المستمرة بأشكال متنوعة، فبعد الثورة ضد بيبي الثاني، قام المصريون عن بكرة أبيهم ضد الهكسوس الغزاة، فخلعوهم من أرض النيل خلعاً، وطردوهم إلى عمق الصحراء البعيدة. ثم جاءت ثورة من نوع آخر، أخذت منحى دينياً وفلسفياً وفنياً خالداً، وقامت على أكتاف إخناتون، الذي نادى بالتوحيد في وجه تعدد الآلهة، وثار ضد الطقوس الوثنية التي استغلت الدين في ظلم البشر وتأليه الحكام، ولو قدر لهذه الثورة أن تنجح لتغير تاريخ العالم برمته. ولمّا غزا الأشوريون مصر، تزَعَّمَ باسماتيك ثورة ضدهم حتى هزمهم، وأقام على أنقاضهم حكْمَ الأسرة السادسة والعشرين، التي سلمت الراية لأسرة بعدها خاضت هبّات شعبية جارفة ضد الفرس المحتلين، دفع فيها المصريون ثمناً غالياً من أرواحهم الزكية في سبيل الحفاظ على نظام حياتهم وطرق معاشهم التي حاول الفرس تدميرها، حتى جاء الإسكندر الأكبر فأخرجهم من بلادنا، لكنه حل محلهم في احتلالها. وجاء الدور على الرومان ليذوقوا نوعاً آخر من كفاح المصريين، الذين وجدوا في تمسكهم بالمسيحية نوعاً من الاحتجاج ضد وثنية الرومانيين، وقطيعة رمزية كاملة وعميقة مع منطقهم الاستعماري، فلما اعتنق امبراطور الرومان المسيحية وجعلها الدين الرسمي لإمبراطوريته المترامية الأطراف، وجد المصريون أنفسهم أمام مأزق شديد، لكنهم سرعان ما وجدوا مساراً لمواصلة كفاحهم، حين ميزوا مذهبهم الديني عن مذهب الرومان، فتواصَلَ النضال، وقدَّمَ الأقباط شهداء لا حصر لهم، ولم تتراخ عزيمتهم في الدفاع عن رؤيتهم الدينية، على رغم مغالاة أعدائهم في اضطهادهم، بل أشعلوا حركات مقاومة متفرقة، فيما هبَّ الصعيد في ثورة عارمة ضد حكم دقلديانوس. وأزاح المسلمون ظلم الرومان عن المصريين، لكن قيام الحكام الأمويين والعباسيين بتحويل الدين إلى أيديولوجيا قاد بعض أمرائهم إلى التعسف مع الرعية، فرفض المصريون هذا التعسف، ولم يكن الرفض مقتصراً على المسيحيين، بل شمل المسلمين أيضاً، سواء الذين من أصل قبطي أو من العرب الذين سكنوا مصر قبل ظهور الإسلام بزمن طويل. لكن مصر ولَّدت ثورات من نوع جديد، حين أخذت على عاتقها الدفاع عن الشرق وعن الإسلام في مواجهة المغول والصليبيين، من دون أن تنسى الاحتجاج ضد ظلم بعض الحكَّام الفاطميين والمماليك والأتراك، ووصل الأمر إلى ذروته حين خلع علماء مصر خورشيد باشا، الوالي العثماني، وعينوا محمد علي بديلاً منه. وتصدى المصريون للحملة الفرنسية (1798 1801) ببسالة وشجاعة، بعد هزيمة المماليك بسيوفهم الصدئة أمام مدافع جيش نابليون، فقامت هبتان شعبيتان جارفتان في القاهرة، أقَضَّت مضاجع الفرنسيين، وأظهرت لهم أن بقاءهم في مصر مستحيل، لا سيما مع فشلهم في السيطرة على صعيد مصر، الذي خاض أهله نحو اثنتين وعشرين معركة ضد الحملة الفرنسية، علاوة على بعض حركات التمرد والمقاومة التي شملت الصعيد برمته. وحدث الشيء نفسه لحملة فريزر الإنكليزي (1807)، الذي انهال أهل رشيد، رجالاً ونساء، على حملته ضرباً من كل مكان، وبأي أدوات ممكنة، حتى فر هارباً. وتحدى أحمد عرابي الخديو توفيق دفاعاً عن حقوق الضباط المصريين، ثم قاد الفلاحين في مقاومة عسكرية ضد الاحتلال الإنكليزي. ورغم هزيمته، فإن ما أقدم عليه ألهب الشعور الوطني لدى المصريين، فشنفوا آذانهم إلى محمد فريد ومصطفى كامل، اللذين دعوا إلى الثورة، وتحقق الأمل مع سعد زغلول ورفاقه في ثورة 1919 الخالدة، التي شاركت فيها كل فئات الشعب المصري، مختلفة الأعمار والنوع والمستوى الاجتماعي والدين، فحصد المصريون استقلالاً نسبياً ودستوراً رائعاً، وتعبَّدَ الطريق أمام ثورة يوليو 1952، التي وإن كانت قد بدأت بانقلاب عسكري، فإنها لم تلبث أن تحولت إلى ثورة اجتماعية كاملة أعادت ترتيب الطبقات المصرية، وحررت البلاد من المَلَكية الفاسدة والاستعمار الغاشم، وألهمت شعوب العالم الثالث برمته روح التحرر والانعتاق. إن هذا التاريخ الطويل يحمل في جوفه ثورة دائمة، لكنها طالما توارت خلف تحضر المصريين، وكراهيتهم للفوضى، وقدرتهم على صهر الغريب، وإجادتهم فن المقاومة بالحيلة، وثقتهم في تدينهم وثقافتهم، فبدا جل تاريخ مصر ناراً تستعر تحت الرماد، لا يراها إلا كل ذي عقل فهيم، وبصيرة نافذة. * كاتب مصري