من «مصر الأزمة» إلى «مصر التغيير» إلى «مصر ما بعد مبارك»، سارت الفضائيات المصرية والعربية والعالمية جنباً إلى جنب مع الثورة المصرية، لحظة بلحظة، وتطوراً بتطور، وسقوطاً بسقوط، ونجاحاً بنجاح. الأكيد أن الفضائيات كانت شريكاً أساسياً في ثورة مصر، سواء كعامل تشجيع، تثبيط أم إنجاح. ليس هذا فقط، بل كانت طرفاً في معارك النظام حيناً، ومعادلاته حيناً آخر، وصوتاً للشباب الثائر دائماً، وأداة للتواصل طيلة الوقت، ومنبراً للإعلان عن النجاح. الحديث عن الفضائيات بوق النظام، أو عدوه، أو الواقفة على الحياد ليس جديداً، وإن ظل حتى اللحظات الأخيرة ورقة يلعب بها الجميع ويتلاعبون سواء لأهداف نبيلة أم لأغراض وضيعة. الشاشات الضخمة التي وضعت في ميدان التحرير، رمز الثورة، لعبت دوراً لا يقل أهمية عن دور الثائرين. والانترنت الذي انقطع مع الأيام الأولى لتفجر الثورة عوضته إلى حد كبير الفضائيات. ومع الاعتراف بأن من الفضائيات من زاد تمسكه بأجندات سياسية، فالسمة العامة للقنوات العربية الإخبارية كانت نقل الحقيقة كيفما كانت. لكن الحقيقة كيفما كانت لم ترض البعض. فبلطجية الخيول والجمال الذين دهسوا المتظاهرين وساروا بحيواناتهم على أجسادهم كانوا في نظر خبراء استراتيجيين ومحللين سياسيين في استوديوات الإعلام الرسمي «رجالاً عاملين في قطاع السياحة جاؤوا ليعبروا عن الخسارة التي لحقت». ولم يع أولئك أن الصورة أبلغ من ألف كلمة. من هنا كان انتقاء الصور من قلب ميدان التحرير المنهج التلفزيوني الرسمي منذ البداية. ثلة المتظاهرين المنادية بطول العمر وامتداد البقاء للرئيس في ميدان مصطفى محمود في الجيزة، كانت على الشاشة الرسمية هي قلب الحدث. ورسمياً أيضاً، كانت «جموع المصريين المؤيدين للرئيس مبارك في أنحاء مصر تعبر هي الأخرى عن رأيها». أصوات المتصلين الباكية والطالبة غفران الأب الرئيس الإنسان صاحب الضربة الجوية في التلفزيون الرسمي، كانت تبكي على متن قنوات خاصة وعربية طالبة الغوث من «هروب الأمن الجماعي وفتح أبواب السجون لينضم هؤلاء إلى أولئك لترويع المصريين». وظل النظام متمسكاً حتى آخر لحظة ب «فزاعة» الفضائيات المدسوسة الخائنة العميلة. وليس أدل على ذلك من تحذير صريح وجهه نائب الرئيس السابق عمر سليمان للمصريين من «فضائيات مغرضة تتربص بمصر». لكن التربص فضائياً لم يكن وليد الثورة أو إبن الأمس، بل ورقة ظل الإعلام الرسمي طيلة سنوات طويلة يلوح بها أمام أي خطر. وعلى رغم محاولات التلفزيون الرسمي خلع قناع الأحادية و «مسح الجوخ» للنظام، من خلال ارتداء قناع التعددية وعرض الرأي الآخر الذي لم يكن سوى الرأي الأول مضافاً إليه بعض التوابل، فإنها كانت محاولات هزيلة مضحكة. «مصر النهارده» كان أبرز تلك الأقنعة، اذ ظل يتأرجح قبل وأثناء «ثورة التحرير» بين شجب إفساد عيد الشرطة التي تقدم خدمات جليلة للوطن بتنظيم تظاهرة في اليوم نفسه، والترنح بين الإشادة بالشباب الواعي مع ضرورة الحفاظ على الأمن والأمان أي النظام، ومحاولات لتأييد الثورة باستضافة رموز منها لم يتوانوا عن فضح ممارسات التلفزيون الرسمي ومحاولاته إجهاض الثورة على الهواء. وعلى الهواء مباشرة كذلك، أعلن الإعلامي محمود سعد الذي كان أبرز مقدمي ال «توك شو» الرسمي («مصر النهارده»)، الانسحاب من المهزلة الإعلامية الرسمية قبل اندلاع الثورة، وتحديداً بعد توجيه اللوم له بسبب التهنئة الخارجة على النص الموضوع مسبقاً للثورة في تونس. وأضاف سعد في حوار مع برنامج «48 ساعة» الذي تبثه قناة «المحور» الخاصة أن وزير الإعلام أنس الفقي أصدر قراراً بمنعه من الظهور في البرنامج لرفضه الإعلان عن وجود عناصر خارجية وراء شباب ميدان التحرير هدفها التخريب والتدمير. ما رفضه سعد قبله آخرون ظلوا على موقفهم، مثبتين كاميراتهم على زوايا خالية ومضللة من «ميدان التحرير الآن» الذي كان يعج بملايين المتظاهرين. ويمكن القول من دون أدنى مبالغة أن التلفزيون الرسمي –الذي رفع ضغط دماء كثيرين لفرط الكذب والنفاق– ساهم بمقدار غير قليل في إنجاح ثورة التحرير. وما زالت الحقائق تتجلى في هذا الشأن، فها هو المثقف المصري الكبير الدكتور جابر عصفور الذي مكث في موقع وزير الثقافة سويعات يبوح بالمخفي. «أنس الفقي ضرب على المنضدة بشدة اعتراضاً على قولي إنها حكومة إنقاذ»؛ «أنس الفقي وصف الحكومة بأنها حكومة حزب وطني»؛ «أنس الفقي عارض بشدة طلبي أن تضم الحكومة وزراء مستقلين». والحقيقة أن المصريين لم يكونوا في حاجة لأن يسمعوا كواليس الإعلام الرسمي ليتيقنوا من دوره المغرض. وفشلت كاميرات الإعلام الرسمي تماماً في تمويه الزوايا أو حتى الابتعاد عنها، وذلك في «ليلة الرحيل» أو «جمعة الغضب» حين أحاط المتظاهرون بمبنى «ماسبيرو» أو مبنى التلفزيون. محاولة إنقاذ أخيرة أقبل عليها التلفزيون الرسمي، وهي نزول أحد المذيعين ل «التحاور» مع المحتجين على الهواء مباشرة. وانهمرت الانتقادات الشجاعة من جموع المحتجين. أما الحوارات التي أجراها المذيع فكانت جميعها تدور في إطار واحد: «جئنا من أجل الحرية والكرامة التي منعها التلفزيون الرسمي على مدى سنوات». حتى بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وخطابات مبارك، كان كثيرون يتابعونها عبر القنوات الخاصة، أو الإخباريات العربية، خوفاً من خضوعها لمونتاج رسمي. ثورة مصر الغاضبة بالأمس المتفائلة بالغد ساهمت فيها السموات المفتوحة بالكثير، سلباً وإيجاباً. صباح أمس بث التلفزيون الرسمي تهنئة للشعب بنجاح ثورته العظيمة التي قادتها خيرة شباب مصر. وبث اتحاد الإذاعة والتلفزيون بياناً تعهد فيه أن يكون الاتحاد أميناً في رسالته. شتان بين الأمس وقت كان ثوار التحرير «قلة مندسة وشرذمة عميلة» وبين اليوم حين تحولوا «خيرة شباب مصر». إنه الفرق بين السماء والأرض!