فوّض الرئيس المصري حسني مبارك أمس صلاحياته لنائبه عمر سليمان في محاولة لتدارك الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، لكن ملايين المتظاهرين في مختلف أنحاء البلاد رفضوا هذه الخطوة وطالبوهما بالرحيل. وبعد ساعات من إعلان القوات المسلحة «البيان الرقم 1» الذي أكدت فيه أن مجلسها الأعلى الذي اجتمع في غياب مبارك، «في حالة اجتماع مستمر لاتخاذ الاجراءات التي تكفل الحفاظ على الوطن وتأكيد وتأمين مكاسب الشعب المصري»، معربة عن تأييدها ل «مطالب الشعب المشروعة»، خاطب مبارك المصريين معلناً تفويضه صلاحياته لنائبه عمر سليمان الذي ألقى كلمة أخرى دعا فيها المتظاهرين إلى فض احتجاجاتهم والعودة إلى «ديارهم وأعمالهم». وبدا مبارك شاحباً وهو يلقي كلمته المسجلة التي بثها التلفزيون المصري في وقت متقدم من مساء أمس، وجاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم الأخوة المواطنون، الأبناء شباب مصر وشاباتها. اتوجه بحديث اليوم إلى شباب مصر في ميدان التحرير وعلى اتساع ارضها، اتوجه إليكم جميعا بحديث من القلب، حديث الأب لأبنائه وبناته أقول لكم انني اعتز بكم رمزاً لجيل مصري جديد يدعو للتغيير إلى الأفضل ويتمسك به ويحلم بالمستقبل ويصنعه، أقول لكم قبل كل شيء إن دماء شهدائكم وجرحاكم لن تضيع هدراً، وأوكد أنني لن اتهاون في معاقبة المتسببين عنها بكل الشدة والحزم، وسأحاسب الذين أجرموا في حق شعبنا بأقصى ما تقرره أحكام القانون من عقوبات رادعة. وأقول لعائلات هؤلاء الضحايا الأبرياء إنني تألمت كل الألم من أجلهم مثلما تألمتم وأوجع قلبي ما حدث لهم كما أوجع قلوبكم. أقول لكم إن استجابتي لصوتكم ورسالتكم ومطالبكم هو التزام. وإنني عازم كل العزم على الوفاء بما تعهدت به بكل الجدية والصدق وحريص كل الحرص على تنفيذه من دون ارتداد أو عودة إلى الوراء. إن هذا الالتزام ينطلق من اقتناع أكيد بصدق ونقاء نواياكم وتحرككم وأن مطالبكم هي مطالب عادلة ومشروعة، فالأخطاء واردة في أي نظام سياسي وفي أي دولة لكن المهم هو الاعتراف بها وتصحيحها في أسرع وقت ومحاسبة مرتكبيها. وأقول لكم إنني كرئيس للجمهورية لا أجد حرجاً أو غضاضة أبداً في الاستماع لشباب بلادي والتجاوب معه، لكن الحرج كل الحرج والعيب كل العيب وما لم ولن أقبله أبدا أن أخضع لأملاءات خارجية تأتي من الخارج أياً كان مصدرها وأياً كانت ذرائعها أو مبرراتها. الأبناء شباب مصر الأخوة المواطنون. لقد أعلنت بعبارات لا تحتمل الجدل أو التأويل عدم ترشيحي للانتخابات الرئاسية المقبلة مكتفياً بما قدمته من عطاء للوطن لأكثر من ستين عاماً في سنوات الحرب والسلام. أعلنت تمسكي بذلك وأعلنت تمسكاً مماثلاً وبذات القدر بالمضي في تحمل مسؤوليتي في حماية الدستور ومصالح الشعب حتى يتم تسليم السلطة والمسؤولية لمن يختاره الناخبون في سبتمبر (أيلول) المقبل في انتخابات حرة ونزيهة يتوفر لها ضمانات الحرية والنزاهة. ذلك هو القسم الذي اقسمته أمام الله والوطن وسأحافظ عليه حتى أبلغ بمصر وشعبلها بر الأمان. لقد طرحت رؤية محددة للخروج من الأزمة الراهنة ولتحقيق ما دعا إليه الشباب والمواطنون بما يحترم الشرعية الدستورية ولا يقوضها وعلى نحو يحقق استقرار مجتمعنا ومطالب أبنائه ويطرح في ذات الوقت إطاراً متفقاً عليه للانتقال السلمي للسلطة من خلال حوار مسؤول بين قوى المجتمع كافة وبأقصى قدر من الصدق والشفافية، طرحت هذه الرؤية ملتزماً بمسؤوليتي في الخروج بالوطن من هذه الأوقات العصيبة وأتابع المضي في تحقيقها أول بأول بل ساعة بساعة، متطلعاً لدعم ومساندة كل حريص على مصر وشعبها كي ننجح في تحويلها لواقع ملموس وفق توافق وطني عريض ومتسع القاعدة تسهر على ضمان تنفيذه قواتنا المسلحة الباسلة. لقد بدأنا بالفعل حواراً وطنياً بناء يضم شباب مصر الذين قادوا الدعوة إلى التغيير والقوى السياسية كافة ولقد أسفر هذا الحوار عن توافق مبدئي في الآراء يضع أقدامنا على بداية الطريق الصحيح للخروج من الأزمة ويتعين مواصلته للانتقال به من الخطوط العريضة لما تم الاتفاق عليه إلى خريطة طريق واضحة وبجدول زمني محدد تمضي يوماً بعد يوم على طريق الانتقال السلمي للسطة من الآن وحتى سبتمبر المقبل. إن هذا الحوار الوطني قد تلاقى حول تشكيل لجنة دستورية تتولى دراسة التعديلات المطلوبة في الدستور وما تقتضيه من تعديلات تشريعية كما تلاقى حول تشكيل لجنة للمتابعة تتولى متابعة التنفيذ الأمين لما تعهدت به أمام الشعب. ولقد حرصت على أن يأتي تشكيل كلتا اللجنتين من الشخصيات المصرية المشهود لها بالاستقلال والتجرد ومن فقهاء القانون الدستوري ورجال القضاء. وفضلاً عن ذلك، فإنني إزاء ما فقدانه من شهداء من أبناء مصر في أحداث مأسوية حزينة أوجعت قلوبنا وهزت ضمير الوطن أصدرت تعليماتي بسرعة الانتهاء من التحقيقات حول أحداث الأسبوع الماضي وإحالة نتائجها على الفور إلى النائب العام ليتخذ في شأنها ما يلزم من إجراءات قانونية رادعة. ولقد تلقيت بالأمس التقرير الأول عن التعديلات الدستورية ذات الأولية المقترحة من اللجنة التي شكلتها من رجال القضاء وفقهاء القانون لدراسة التعديلات الدستورية والتشريعية المطلوبة وإنني تجاوباً مع ما تضمنه تقرير اللجنة من مقترحات وبمقتضى الصلاحيات المخولة لرئيس الجمهورية وفقاً للمادة 189 من الدستور فقد تقدمت اليوم بطلب تعديل 6 مواد دستورية هي مواد 76 و77 88 و93 و189 فضلا عن إلغاء المادة 179 من الدستور مع تأكيد الاستعداد في التقدم في وقت لاحق بطلب التقدم بتعديل المواد التي تنتهي إليها هذة اللجنة الدستورية وفق ما تراه من دواعى ومبررات. تستهدف هذه التعديلات ذات الاولوية تيسير شروط الترشيح لرئاسة الجمهورية واعتماد عدد محدد لمدد الرئاسة تحقيقاً لتداول السلطة وتعزيز ضوابط الاشراف علي الانتخابات ضمانا لحرياتها ونزاهتها كما تؤكد اختصاص القضاء وحده بالفصل في صحة عضوية أعضاء البرلمان، وتعدل شروط واجراءات طلب تعديل الدستور، أما الاقتراح بإلغاء المادة 179 من الدستور فإنه يستهدف تحقيق التوازن المطلوب بين حماية الوطن من مخاطر الارهاب وضمان الحقوق والحريات المدنية للمواطنين بما يفتح الباب أمام إيقاف العمل بقانون الطوارئ فور استعادة الهدوء والاستقرار. الاخوة المواطنون إن الاولوية الان هي استعادة الثقة بين المصريين بعضهم البعض والثقة في اقتصادنا وسمعتنا الدولية، والثقة في أن التغير والتحول الذي بدأناه لا ارتداد عنه ولا رجعه فيه، إن مصر تجتاز أوقاتاً صعبة لا يصح أن نسمح باستمرارها فيزداد ما ألحقته بنا وباقتصادنا من أضرار وخسائر يوماً بعد يوم، وينتهى بمصر الأمر لأوضاع يصبح معها الشباب الذين دعوا إلى التغير والاصلاح أول المتضررين منها. إن اللحظة الراهنة ليست متعلقة بشخصي، ليست متعلقة بحسنى مبارك وإنما بات الأمر متعلقاً بمصر في حاضرها ومستقبل أبنائها. إن المصريين جميعاً في خندق واحد الآن وعلينا أن نواصل الحوار الوطني الذي بدأناه بروح الفريق وليس الفرقاء، وبعيداً عن الخلاف والتناحر، كي تتجاوز مصر أزمتها الراهنة ولنعيد لاقتصادنا الثقة فيه ولمواطنينا الثقة والاطمئنان، وللشارع المصري حياته اليومية والطبيعية. لقد كنت شاباً مثل شباب مصر الآن عندما تعلمت شرف العسكرية المصرية والولاء للوطن والتضحية. من أجله أفنيت عمراً دفاعاً عن أرضه وسيادته، شهدت حروبه بهزائمها وانتصاراتها عشت أيام الانكسار والاحتلال، وأيام العبور والنصر والتحرير، أسعد أيام حياتى يوم رفعت علم مصر علي سيناء، واجهت الموت مرات عدة، طيارا وفي اديس ابابا، وغير ذلك كثير. لم أخضع يوماً لضغوط أجنبية أو املاءات، حافظت على السلام وعملت من أجل امن مصر واستقرارها، واجتهدت من أجل نهضتها ومن أجل ابنائها، لم أسع يوماً إلى سلطة أو شعبية زائفة، أثق أن الغالبية الكاسحة من أبناء شعب مصر، يعلمون من هو حسنى مبارك، ويحز في نفسي ما ألاقيه اليوم من بعض بني وطني، وعلي أي حال، فإنني إذ أعي تماماً خطورة المفترق الصعب الحالي، واقتناعا من جانبي أن مصر تجتاز لحظة فارقة في تاريخها تفرض علينا جميعاً تغليب مصلحة الوطن، وأن نضع مصر أولاً فوق اي اعتبار وكل اعتبار آخر، فقد رأيت تفويض نائب رئيس الجمهورية في اختصاصات رئيس الجمهورية على النحو الذي يحدده الدستور. إنني أعلم علم اليقين أن مصر ستتجاوز ازمتها، لن تنكسر إرادة شعبها، ستقف على أقدامها من جديد بصدق، وإخلاص أبنائها، كل ابنائها وسترد كيد الكائدين، وشماتة الشامتين سنثبت نحن المصريين قدرتنا علي تحقيق مطالب الشعب بالحوار المتحضر والواعي، سنثبت أننا لسنا أتباعاً لأحد، ولا نأخذ تعليمات من أحد، وأن أحدا لا يصنع لنا قراراتنا، سوى نبض الشارع ومطالب أبناء الوطن. سنثبت ذلك بروح وعزم المصريين وبوحدة وتماسك هذا الشعب، وبتمسكنا بعزة مصر وكرامتها وهويتها الفريدة والخالدة فهي أساس وجدودنا وجوهره لأكثر من 7 آلاف عام. ستعيش هذه الروح فينا ما دامت مصر ودام شعبها، ستعيش في كل واحد من فلاحينا وعمالنا ومثقفينا. وستبقى في قلوب شيوخنا وشبابنا واطفالنا، مسلميهم واقباطهم، وفي عقول وضمائر من لم يولد بعد من ابنائنا. أقول من جديد إننى عشت من أجل هذا الوطن، حافظاً لمسؤوليته وامانته، وستظل مصر هي الباقية فوق الأشخاص وفوق الجميع. وستبقى حتى أسلم امانتها ورايتها، هي الهدف والغاية والمسؤولية والواجب، بداية العمر ومشواره ومنتهاه، وأرض المحيا والممات. ستظل بلداً عزيزاً لا يفارقني أو افارقه حتى يواريني ترابه وثراه، وستظل شعباً كريماً يبقي أبد الدهر مرفوع الرأس والراية وموفور العزة والكرامة. حفظ الله مصر بلداً آمناً ورعى شعبه وسدد على الطريق خطاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». موقف أميركي وفي واشنطن، أعلن الناطق باسم البيت الأبيض روبرت غيبز أن الرئيس باراك أوباما سيجتمع بمستشاريه للأمن القومي بعد خطاب مبارك. وكان الرئيس الأميركي أكد قبل الخطاب أن واشنطن «تدعم عملية انتقال حقيقية ومنظمة نحو الديموقراطية». وقال إن بلاده «تتابع عن كثب التطورات في مصر... وما نشهده هو صنع للتاريخ». ووصف الأحداث بأنها «لحظة تحول للمصريين وللجيل الجديد»، متعهدا دعم «مرحلة انتقالية منظمة وحقيقية». وأشارت مصادر موثوقة في العاصمة الأميركية ل «الحياة» إلى أن واشنطن «على اتصال بجميع الأطراف في مصر، بمن فيهم الاخوان المسلمين»، رغم نفي مسؤولين في البيت الأبيض حصول أي اتصالات مع الجماعة. ولم يبد مسؤولون في الاستخبارات الأميركية، بينهم مدير وكالة المخابرات المركزية ليون بانيتا، في جلسة استماع أمام الكونغرس مخاوف على الوضع في مصر، مؤكدين ضرورة بدء «مرحلة انتقالية منظمة». وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يفترض أن يترأسه مبارك بصفته القائد الأعلى للجيش، اجتمع برئاسة القائد العام وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي وبمشاركة رئيس الأركان الفريق سامي عنان ومساعديهما ورؤساء قطاعات وأفرع الجيش، ثم ظهر مبارك في وقت لاحق مجتمعاً مع نائبه ورئيس وزرائه الفريق أحمد شفيق، كل على حدة. واستبق بيان مبارك وموقف الجيش توقعات بيوم حاسم وتظاهرات حاشدة في أنحاء مصر عقب صلاة الجمعة اليوم، بعدما زاد الحديث عن دور الجيش والمدى الذي يتحمله في موقعه ما بين نظام الحكم والمحتجين وبعدما جرت إعادة انتشار الجيش في أنحاء مصر، إذ انسحبت دبابات ومدرعات من بعض الميادين في الشوارع الى أطراف القاهرة، فيما زاد الوجود العسكري في شكل لافت في محيط القصر الرئاسي. وترافق ذلك مع تصعيد لافت في شكل الاحتجاجات سواء في ميدان التحرير أو مناطق أخرى بينها محافظات بعيدة عن العاصمة، ما عكس اتساع نطاق الاحتجاجات وانتقال الثورة من المطالبات الشبابية إلى مطالبات شعبية زادت الضغوط لنيل حقوق نقابية إضافة إلى المطالبة برحيل مبارك. وقبل بيان مبارك، أعلن ضباط الجيش وسط الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير ومناطق أخرى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيلبي مطالب المتظاهرين، قبل أن يبث التلفزيون الرسمي لقطات لاجتماع للمجلس. وأثار بيان الجيش الذي تلاه مساعد وزير الدفاع اللواء أركان حرب محسن الفنجري ارتباكاً، إذ اعتبره بعضهم رسالة مفادها أن «عهداً جديداً بدأ»، خصوصاً في ظل غياب مبارك عن اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو كان حريصاً في بداية الأزمة على الظهور وسط قادة الجيش في غرفة العمليات المركزية أثناء وضع خطة انتشار الجيش في مختلف أرجاء الجمهورية. وعبّر «الإخوان المسلمون» عن القلق من حكم الجيش، فور إعلان بيان القوات المسلحة، وأكدوا تخوفهم من «عسكرة الدولة بعد مبارك». وقال عضو مكتب إرشاد «الاخوان» محمد مرسي: «نرغب في تغير الوضع القائم والتحول إلى دولة مدنية يحكمها القانون ودستور مدني وليس الانقلاب إلى حكم عسكري»، مشيراً إلى أن «التحركات الأخيرة تبدو وكأنها انقلاب عسكري، وهو ما يشعرنا بالقلق».