كل صباح يحمل آلاف اليمنيين الأواني الفارغة ويذهبون للبحث عن المياه. كانت هذه الصورة حتى أعوام قليلة مضت مألوفة في القرى والأرياف البعيدة، حيث تنطلق أعداد كبيرة من الأطفال والنساء في رحلات شاقة ومتعبة ولمسافات طويلة تصل إلى 2 و3 كيلومترات لجلب احتياجات الأسر من المياه التي تبقيها على قيد الحياة، حيث تراهم يحملون أواني المياه على ظهور الحمير وعلى رؤوسهم. تلك الصورة التي تعكس المعاناة اليومية، لم تبقَ حكراً على تلك القرى المقفرة، بل شملت معظم مراكز المدن الكبيرة المأهولة بالسكان، وأولها العاصمة اليمنية صنعاء، حيث يتحمل الأطفال كذلك المتاعب المتعددة فيها لجلب المياه، وفي إحصاءات لمنظمة «يونيسيف»، جاء انه نتيجة لاستمرار الصراع والحرب في اليمن أضحى زهاء 14.5 مليون شخص على الأقل لا يحصلون على مياه صالحة للشرب في شكل منتظم ودائم، علاوة على الحرمان من خدمات الصرف الصحي والنظافة العامة والتوقف شبه الكلي لمشاريع الشبكة العامة للمياه، التي تضررت من الحرب في شكل كبير. في صنعاء تدهورت الأحوال كثيراً، بعد أن توقف ضخ المياه عن معظم أحياء المدينة، ليحصل السكان على احتياجاتهم من المياه عبر صهاريج وخزانات متنقلة، وبأسعار باهظة يعجز الكثير عن تحملها، وهو ما دفع منظمة «يونيسيف» وفاعلي خير لنصب خزانات متنقلة تزود سكان بعض الأحياء بالمياه النظيفة والمأمونة، خصوصاً بعد تفشي الكوليرا. في إحدى المحطات تقضي الطفلة شذى (9 سنوات)، ساعات طويلة وسط تزاحم وسباق شديدين بين أقرانها من الأطفال والنساء للحصول على المياه، حيث تعتبر هذه المحطة نموذجاً للعديد من المحطات والخزانات التي تم إنشاؤها بتمويل منظمة «اليونيسف» وعدد من الجهات لتزويد الأحياء السكنية في العاصمة بالمياه النظيفة، والتي تزداد احتياجاتها مع الزيادة المتسارعة في عدد سكانها الذين يزيدون اليوم عن أربعة ملايين نسمة بسبب الهجرة الداخلية والنزوح إليها من مناطق المواجهات المسلحة، وعلى رغم أن مدينة صنعاء تعاني منذ سنوات أزمة مياه، إلا أن الحرب ودوامة الصراع عمقتا هذه الأزمة في شكل كبير. تقول شذى إنها وعدداً من إخوانها يقضون أوقات طويلة لجلب المياه، الأمر الذي يؤثر في مستوى تحصيلهم الدراسي، وأنهم يتعرضون للمضايقات بسبب أشخاص يكبرونهم سناً ولا يلتزمون بأي نوع من النظام في الطوابير الطويلة، ويسعون دائماً للحصول على حصتهم من المياه بالقوة، وتضيف: «أن ما يجلبونه من المياه إلى منازلهم يتم استخدامه للشرب والطبخ والاستحمام وأن ذلك حل لهم الكثير من المشكلات خصوصاً أن أسرتها فقيرة ولا تستطيع شراء المياه، بسبب ارتفاع أسعارها، حيث بلغت قيمة الحاوية سعة أربع أقدام مكعبة من المياه نحو عشرة آلاف ريال (30 دولاراً) تقريباً». ويتفاوت هذا السعر بين حين وآخر طبقاً لأسعار الوقود. ويؤكد محمد حسن مالك ناقلة لبيع المياه أن تقلب الأسعار يخضع لمدى توفير الوقود وأسعارها، وعلى الطلب المتزايد بسبب عدم عمل المشروع الحكومي للمياه، وأنه وغيره من السائقين يشعرون بتذمر الناس لكن هذا هو الواقع، ولا يملكون القدرة لتغييره. تفاقم الوضع منذ مدة طويلة تعود إلى بداية كانون الأول (ديسمبر) 2015، حين أعلنت المؤسسة العامة للمياه فرع صنعاء أنها لم تعد قادرة على الاستمرار في تقديم خدمة تزويد المنازل بالمياه لفترة طويلة، كما مثل امتناع الناس عن تسديد فواتيرهم ونقص الوقود اللازم لضخ المياه من الآبار أحد أهم أسباب تلك المشكلة، والحال ذاتها تنطبق على معظم المحافظات اليمنية. منذ عقود يصنف اليمن بين الأكثر جفافاً، فهو يعاني ندرة حادة في المياه، واتسعت الفجوة فيه بين العرض والطلب إلى 1.4 بليون متر مكعب سنوياً نتيجة أحد أسرع معدلات النمو السكاني في العالم والاستخدام المفرط للمياه، كما يعتبر أفقر البلدان العربية من حيث الموارد المائية، حيث يعتمد كلياً على المياه الجوفية. وتعتبر مياه الأمطار قليلة جداً، وتقدر في المنطقة الوسطى ب400-1100 مليمتر، أما في المناطق الساحلية فلا تزيد على 100 مليمتر سنوياً، وتأتي زراعة القات الأكثر استنزافاً للمياه، وتؤكد تقارير الجهاز المركزي للإحصاء أن استهلاك القات للمياه يقدر ب 800 مليون متر مكعب سنوياً لإنتاج 25 ألف طن، أي أن الطن الواحد يستهلك 32 ألف متر مكعب من المياه. مع استمرار الصراع والحرب التي دخلت عامها الثالث يتسع التهديد ويزداد خطره على السكان البالغ تعدادهم أكثر من 25 مليون نسمة، ومثلت أزمة المياه الوجه القبيح للحرب والصراع الدامي وبسببها انتشر الكثير من الأمراض القاتلة كالملاريا والكوليرا، وحذر الناطق باسم منظمة «يونيسيف» في اليمن محمد الأسعدي من انتشار الأوبئة على نطاق واسع وارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال إذا لم تتم مساعدة اليمن. وتشير الإحصاءات إلى أن الأمراض الناجمة عن نقص المياه تؤدي إلى وفاة 14 ألف طفل يمني دون سن الخامسة كل عام، وهو رقم مفجع يتزايد في شكل سريع مع استمرار وتيرة الصراع، كما أشارت تلك الإحصاءات إلى أن عدد اليمنيين الذين يعانون نقص المياه منذ بدء الحرب يتصاعد في شكل مخيف، حيث انقطعت إمدادات المياه عن معظم المدن المكتظة بالسكان. ووفق مصادر طبية يمنية فإن انعدام المياه الصالحة للشرب يمثل السبب الأبرز لانتشار الكوليرا، وتؤكد المصادر أن المياه التي يتم جلبها من الآبار الخاصة غالباً ما تكون ملوثة، إضافة إلى أن نقلها من قبل السكان وفي أوان وعبوات غير نظيفة يعرضها للتلوث، وهو ما ساهم في سرعة انتشار الوباء في شكل مخيف ليتجاوز حاجز ال 430 ألف حالة إصابة بالإسهال المائي الحاد، خلال أقل من 4 أشهر، وقرابة 2000 حالة وفاة.