ما يجري في المسجد الأقصى حالياً يجعلنا نتذكر بقوة عبقرية «الانتفاضة الفلسطينية الأولى»، التي اندلعت في كانون الأول (ديسمبر) 1987، في حفاظها على شكل «أفقي» للكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، والابتعاد عن التورط في أي أشكال «رأسية» تصاعدية للقتال، تتيح لإسرائيل أن تزيد من حجم رد الفعل، عدداً وعدة، وتستخدم آلتها العسكرية التقليدية الباطشة على نطاق واسع ضد شعب أعزل، في حرب غير متكافئة. اكتفت الانتفاضة بالحجر سلاحاً وحيداً في معركتها، وهي تضع نصب عينيها تحقيق هدفين رئيسيين، الأول هو إرهاق الإسرائيليين، بما يجبرهم على الانسحاب من الأراضي المحتلة، ويقضي على أوهامهم بأن بقاءهم في الضفة الغربية وقطاع غزة بات أمراً واقعاً، والثاني هو لفت انتباه العالم بشدة إلى معاناة شعب يرزح تحت نير احتلال باطش. وبالفعل تحقق هذان الهدفان، إذ لم يجد إسحق رابين بداً من الفرار من «مستنقع» غزة، ودفع العالم باتجاه «حل سلمي» بدأ باعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتهى بمؤتمر مدريد عام 1991، الذي مهد الطريق إلى اتفاقية أوسلو، والتي فرغتها إسرائيل تباعاً من مضمونها. أما «الانتفاضة الثانية»، التي اندلعت في أيلول (سبتمبر) 2000، فقد خرجت عن الخط «الأفقي» للنضال، وأخذت طريقاً رأسياً، رداً على عدوان إسرائيلي تصاعدي، ربما لأن هذا العدوان كان أكثر استفزازاً وأفدح جرماً، أو لأن الشعب الفلسطيني بدأ يتصرف تحت «تخيل» وجود دولة فلسطينية، لها سلطة سياسية ومؤسسات وقوات أمنية مسلحة، بحوزتها بنادق آلية وذخيرة، ومن ثم فإن النزال هو بين جيشين، وليس بين جيش وأطفال مدججين بالأحجار، كما كانت الحال في الانتفاضة الأولى. وقد استغلت إسرائيل هذا التخيل، الذي زكته بعض المواقف والتعليقات الحماسية من قبل رموز سياسية وحركية فلسطينية، في حديث كاذب عن معركة حربية وعن وقف إطلاق نار، بخاصة بعد العمليات الاستشهادية الفلسطينية في العمق الإسرائيلي. ومع التفوق العسكري الإسرائيلي، لم تنجح الانتفاضة الثانية في تحقيق هدفها الأساسي وهو قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، أو على الأقل في إجبار إسرائيل على أن تعترف بالحقوق الفلسطينية خلال مفاوضات مرحلة نهائية كان من المفترض أن تبدأ قبل اندلاع هذه الانتفاضة، بل إن التلكؤ الإسرائيلي في بدء هذه المرحلة والمصادرة على قضاياها، وفر بيئة نفسية وسياسية لانطلاق الانتفاضة الثانية. وخرج الفلسطينيون وقتها من سباق «عض الأصابع» مع إسرائيل، وهم في وضع أسوأ مما كان الحال عليه قبل أيلول (سبتمبر) 2000، لكنهم أضافوا إلى رصيد خبرتهم في مواجهة إسرائيل الكثير، وبددوا حلماً يهودياً بأن إسرائيل وطن آمن، بما نشط من حركة النزوح منها، وأوقف حركة الهجرة إليها سنين، وبرهنوا على أن بإمكانهم أن يمارسوا ردعاً من خلال عمليات فدائية، من الصعب وضعها تحت السيطرة، مهما بلغ الإحكام الأمني أو وصلت القدرات العسكرية الإسرائيلية، وهي مسألة تفعلها الآن الصواريخ التي تطلق من غزة، والتي قصفت تل أبيب نفسها، ومدناً أبعد منها، ومطارات ومعسكرات. نعم كان الفلسطينيون دوماً مضطرين إلى هذا التصعيد لمواجهة عدو لا يعترف بقانون ولا تردعه مواقف إقليمية ودولية ولا يرى سوى السيف طريقاً للانتصار على الدم الفلسطيني، مستخدماً آلته العسكرية الضخمة، لكن من الواجب ألا تسير أي حركة فلسطينية بقوة دفع ذاتي عمياء، لا تبصر سوى بضع خطوات أمامها، بحيث لا تدفع ضرراً ولا تجلب كثير منفعة، إنما تعطي مبرراً لإسرائيل أمام العالم لاستخدام قوتها النيرانية المفرطة في ضرب المدنيين الفلسطينيين بلا رحمة ولا إنسانية. بل على العكس من ذلك، هناك ضرورة لوجود استراتيجيات للقوى الفلسطينية المقاومة، تتلاقى عند نقاط مفصلية تمثل غايات لا خلاف عليها، طالما أن الممارسات على الأرض تمنع، حتى الآن، من وجود استراتيجية موحدة لقوى النضال الفلسطيني. وإذا كان للضفة الغربية موقف فلتعد إلى الحجر ليسند غزة ويغطيها بكشف العدوان الوحشي عليها، والذي تتجاهله وسائل الإعلام العالمية المتحيزة، حيث تركز على آثار الدمار البسيط الذي تحدثه صواريخ «حماس» في بلدات ومدن إسرائيلية، وتهمل المجزرة الإسرائيلية في غزة المكلومة دوماً. في كل الأحوال تبدو الأوضاع الآن في ظل ما يجري في المسجد الأقصى مؤشرة إلى إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة، تأخرت كثيراً، بعد التلكؤ والتعنت الإسرائيلي في تنفيذ الاتفاقات التي ترتبت على أوسلو، لكن الصراع على السلطة وسط انقسام فلسطيني، وتحويل «حماس» القضية الفلسطينية إلى ورقة في التنافس السياسي الإقليمي أو جزءاً من خطة تعويم جماعة «الإخوان» عربياً وإسلامياً، هو الذي يؤخر اتساع الانتفاضة الحالية لتحريك الموقف إلى الأمام، وهي خطوة يجب أن تسبقها مصالحة فلسطينية متينة، تنحاز للقضية وليس لفصيل أو حركة أو تنظيم، ويسبقها وعي أيضاً لدى النخب الفلسطينية بعدم الانجرار وراء أي دعوة لرفع السلاح مجدداً، فها هو النضال السلمي يثبت أنه السلاح الأقوى، ولعل الجميع يتذكرون أن أرنستو تشي غيفارا الذي رفع السلاح مات وحيداً في الغابة، بينما انتصر غاندي ب «الستياغراها» أو «المقاومة السلمية» على أعتى الإمبراطوريات، وحرر الهند. * كاتب مصري