لعل العالم لم يحتفل بفنان في حياته (باستثناء بابلو بيكاسو) كما يحتفي اليوم بالذكرى الثمانين لعيد ميلاد فنان البوب آرت البريطاني ديفيد هوكني، هو الأشد شهرة عالمية مباشرة بعد فرنسيس بيكون. ينطبق هذا التكريم المبالغ على الأقل على معرضه الاستعادي الراهن في متحف الفن المعاصر لمركز بومبييدو في باريس، مقبلاً من أبرز متحف لندني وهو «تات غاليري»، ميمماً بعد انتهائه أي بعد تشرين الأول (أكتوبر) شطر متحف المتروبوليتان في نيويورك، ليتابع مسيرته الاحتفالية في واشنطن ومتحفها المركزي للفن المعاصر. ولا ندري إلى أين سيتجه التكريس بعد ذلك. ليست هي المرة الأولى التي يعرض له فيها مركز بومبيدو، أخر مرة كان أيضاً معرضاً استعادياً عام 1999، كان في حينها مستقراً في باريس منذ عام 1973، عندما بدأ نشاطه الفني فيها باختياره المحترف العريق الذي كان خاصاً بالمعلم بالتوس قبل وفاته. ثم ارتقى سلم الشهرة وتوصل للعرض في أبرز صالات العاصمة، مثل غاليري لولونغ، ولكن بانتماء ظل بريطانياً، فهو مولود فيها عام 1937، درس في شبابه في كوليج الفنون في لندن منذ عام 1959، ابتدأ «بالواقعية الاشتراكية» بتأثير المدرسة الروسية، ثم تحوّل إلى موضوعات الصناعة البريطانية قبل أن يتأثر فترة بفرنسيس بيكون وموضوعاته الجنسية المثلية الممنوعة حتى ذلك الحين. هو ما يفسّر استقراره في كاليفورنيا في الولاياتالمتحدة الأميركية وتعرفه على فنان البوب آندي وارهول استعار أفضلية الطباعة واستنساخ الفوتو والفوتوكوبي الملون وصور الفيديو والكمبيوتر، في عام 2010 «اكتشف» الكمبيوتر المحمول فأصبح يصمم له سلسلات من المناظر على طريقته، مستلهمة من المنتجع الوطني في كاليفورنيا (يوسميت). عًرف بتعددياته التقنية من البولارويد إلى الطابعة الإلكترونية واللوحة الكرافيكية. يعتبر اليوم مع وارهول من أبرز فناني البوب، الذين يعتمدون الصورة الاستهلاكية التي تطوق سكان المدن الأميركية يومياً، بخاصة على الجدران والإعلانات الضوئية والسينمائية. يعانق معرض مركز بومبيدو الباريسي مئتي عمل فنّي له، منها 160 لوحة، غالبيتها تمثل المناظر الطبيعية التي عرف بها، وأغلب البقية طباعات متنوعة و «فوتو». يمثل أسلوبه البوب الاستثمار اللامحدود للصورة الفوتوغرافية، سواء بالنقل المباشر عنها أو استنساخها بالإسقاط الضوئي، أو حتى التصوير على فوتوكوبي ملون، متناسخ عن أصول فوتوغرافية. هو النسخ الممجوج عادة من الفنانين، ولكنه مقبول لدى بعض الاتجاهات الكرافيكية في تيار البوب آرت، مابين مجاميع طباعات الشاشة الحريرية عن صور المشهورين (ألفس برسلي وكندي ومارلين مونرو) لدى آندي وارهول، أو إعادة استخدام الرسوم المسلسلة في المجلات الشعبية مثل لزنجستاين أو استخدام ملصقات من بقاياها على الجدران، أو حتى النسخ الآلي الأمين مثل «الهبرياليزم». هو مايفسّر تخمة ووفرة إنتاجه، وغزارة اقتنائه من شتى المتاحف العالمية وأصحاب المجموعات، ناهيك عن سعة اتصالاته وعلاقاته بشتّى الطرق والأوساط. لا يشفع لاستهلاكيته الأسلوبية سوى تمايز خصائص مناظره الطوباوية الغنّاء، ذات الألوان الفردوسية والقزحية المتوهجة بحدة لونية قصوى. تعكس محبته للحياة بخاصة وأنه نباتي تعاف حساسيته أكل اللحوم بأنواعها البرية والبحرية. لا ينافس هذه المناظر أصالة سوى مشاهد المسابح والسابحين في كاليفورنيا. علينا الاعتراف بأنه وعلى رغم ميكانيكية النقل الوصفي والحرفي لديه عن صور الفوتوغراف، فحساسيته اللونية الرهيفة كفيلة بتغطية عورة ابتذال الموضوعات والاستفزاز المجاني، وأحياناً الجنسي الرخيص فيها. أما ألوانه فهي أشد صخباً من نظائرها في تيار «الوحشية». بل وأشد حدة قزحية من ألوان تيار «البوب آرت» ذاته. يسجل هوكني في هذه البصرية الجديدة ريادة على مستوى الأداء الاستهلاكي، ما يفسّر ربما ضجيج شهرته العالمية، لكن هذه المبالغة تصل حد الإفراط عندما نزور مكتبة متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو، وذلك من خلال ترف المطبوعات الملونة وتراكمها، كالكتاب العملاق الباذخ الذي يستعيد اللوحات بحجمها الطبيعي وبأسعار فلكية. تؤكد بصورة ملموسة أن موهبة الفنان وأصالته هما آخر شروط الشهرة في عصر العولمة وما بعد الحداثة. وهو ما يفسر تشوش القيم الذوقية والفنية العامة، والعودة بها إلى نقطة الخواء والصفر، وذلك لمصلحة آلية الاستهلاك وسيطرة التسويق على الإبداع بأي ثمن على الأرجح.