إحدى أبدع الإضافات التقنية التي قدمها التلفزيون، تمثلت في تعدد النوافذ (الشاشات)، المطلة على الحدث ذاته، أو أكثر، من زوايا مختلفة. لم تعد هذه العملية معقدة تقنياً، ولا مرهقة فنياً. يكفي أن تتوافر كاميرا، وجهاز إرسال (إس إن جي)، حتى تتوافر الخيارات، وتتعدد. بدا الأمر على نحو ظريف، في القناة السادسة، من باقة «الجزيرة الرياضية»، إذ أمكن للمشاهد أن يطلّ، في آن واحد، على الملعب، والجمهور، ومدرب هذا الفريق، وذاك. هنا ليس ثمة من دلالات، سوى تحقيق رغبة الجمهور، وإثراء متعته، بمشاهدات متعددة، حتى تكاد تصبح الشاشة الواحدة شاشات عدة، ترى الكرة واللاعبين، ورد فعل المدربين، وتشجيعات الجمهور. لا أعتقد أن من اخترع هذه الإضافة التقنية، كان يفكر في أي مغزى سياسي لها. لعل الحاجة (التي هي أمّ الاختراع)، قادت إلى سبيل تقني ما، يظهر المحاوِر والمحاوَر، معاً، في نشرات الأخبار وبرامج الحوار، كما ينظر إلى الحدث من زوايا ومواقع مختلفة، أو يظهر حدثين، أو أكثر، على ترابط ما. المغزى السياسي، برز طافحاً فيما لجأ التلفزيون المصري الرسمي، عبر قناته «المصرية»، وذلك بعد مرور أسبوع على بدء الأحداث في مصر. يومها برزت مشيئة ما، أرادت الردّ على التظاهرات الرافضة، بتظاهرات مؤيدة. تماماً وفق المقولة العربية الرائجة، في سوق السياسة الراهنة: الردّ على الشارع، بالشارع. وبين هذا وذاك، وفي حين اتجه بعض القنوات الفضائية العربية، للتعامل مع الأحداث بمنطق «شارع وشاشة»، اتكاء على فكرة باذخة تتعلق فضائياتنا بحبالها: «الرأي والرأي الآخر»... كان للتلفزيون الرسمي المصري أن تعامل بمنطق «ثلاثة مقابل واحد». هكذا وعلى مدى يومين (الاثنين والثلثاء)، انفتحت أربع نوافذ على الشاشة «المصرية»: واحدة للمتظاهرة الرافضة المنعقدة في ميدان التحرير، وثلاث لتظاهرات مؤيدة، داخل القاهرة وخارجها. هكذا جرى تحويل المُعطى التقني، إلى معنى سياسي. يمكن له أن يتسرّب إلى وعي (أو لاوعي) المشاهد، ليُقرَّ في أعماقه فكرة مراوغة، مفادها أنه إذا كان هناك مصري ما، يرفع شعاراً للرفض، فثمة ثلاثة مصريين، في المقابل، يرفعون شعارات التأييد. تماماً بما يفتح الباب أمام المترددين، في ما بين الشارعين، للإنضمام إلى الشارع المراد تعزيز حضوره، وتوسيعه ما أمكن. لم تعد التكنولوجيا (التلفزيون في حالتنا هذه)، وسيلة للاطلاع، والمعرفة، والكشف، والأخبار، بل أصبحت هي نفسها ذات دلالات، تتحوّل وتتحوّر، وفق من يقف وراءها، يديرها كيفما يشاء. وعلى الجمهور أن يشرب من الكأس التي أُعدّت له... ويرتوي.