رحل في 27 أيار (مايو) الماضي المفكر الاستراتيجي الأميركي - البولندي المولد - والذي تخصص منذ البداية في الشؤون السوفياتية وقضايا الحرب الباردة، وأصدر في بداية الستينات هو وزميله صامويل هنتغتون كتابهما US – USSR الذي ظل دليلاً لإدارة الحرب الباردة، وقد أهله هذا لكي يختاره جيمي كارتر مستشاراً للأمن القومي (1976 - 1980). في تلك الفترة، لعب بريجينسكي أدواراً مهمة في قضايا عالمية وإقليمية، فقد توصل إلى اتفاق 2SALTZ حول الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي وأكمل ما بدأه نيكسون - كيسنجر منذ قطع العلاقات مع الصين، غير أن من أكبر أدواره التخطيط لإنهاك الاتحاد السوفياتي عسكرياً وسياسياً من خلال دعم المجاهدين الأفغان، وله صورة شهيرة وهو يوجه بندقيته من الحدود الأفغانية إلى الحدود الروسية. بعد تركه منصبه، أصدر بريجينسكي مجموعة من الكتب: «خارج السيطرة»، «رقعة الشطرنج الكبرى»، «الاختيار»، «الفرصة الثانية»، ثم كتابه «رؤية استراتيجية: أميركا وأزمة القوة العالمية». وكانت نقطة انطلاق بريجينسكي في هذه الإصدارات هي القوة الأميركية ومستقبلها في عالم تتنوع فيه القوى، وعن نقاط القوة والضعف في الولاياتالمتحدة والتحديات الداخلية والعالمية التي تواجهها. في هذه الإصدارات أيضاً، كان للشرق الأوسط وقضاياه نصيب من تفكير بريجينسكي، فقد نالت قضيتا الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والإرهاب اهتماماً ملحوظاً. ولا بد من أن نذكر أنه خلال عمله مستشاراً للأمن القومي ووفقاً لعضو في فريق التفاوض الأميركي في كامب دايفيد، كان بريجينسكي هو الذي نصح كارتر أن يكرس 13 يوماً لمفاوضات كامب دايفيد، لأن ثمة فرصة غير قليلة للتوصل إلى اتفاق، وعندما حزم السادات حقائبه وهدد بالانسحاب نصح كارتر أن يكون حازماً معه وأن يوضح له أنه سوف يخسر صديقاً في البيت الأبيض، فضلاً عن انعكاسات الفشل على وضع كارتر الداخلي. وفي كتابه «الفرصة الثانية» 2007، الذي خصصه لتقييم ثلاثة رؤساء أميركيين: بوش الأب وكلينتون وبوش الابن، وفي تناوله سياساتهم تجاه الشرق الأوسط اعتبر أن إدارة كلينتون انحرفت تدريجاً من الالتزام بتسوية عادلة إلى وضع منحاز لإسرائيل، وعكس فريق كلينتون هذا التطور والذي اختير من معاهد البحث الموالية لإسرائيل. وعارض أبرز هؤلاء أيّ مبادرة محددة للسلام على أساس أن الوقت يجب أن يمر قبل أن يكون الفريقان مستعدين لتسوية حقيقية، وهذه الحجة هي التي استخدمتها العناصر المتشددة في إسرائيل لتوسيع ودعم المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، استناداً الى أن «الحقائق المتحققة» على الأرض سوف تجبر الفلسطينيين على تنازلات أكثر. وفي ما يتعلق بدعوة كلينتون لكامب دايفيد 2، فإنه على عكس كارتر كان يفتقر إلى إطار أميركي مسيطر قائم على مواقف أميركية محددة وعلى مشروع أميركي للتفاوض. ويستخلص بريجينسكي أنه إذا كان هذا الجهد الذي بذله كلينتون لإحداث اختراق قد بذل في وقت مبكر، فربما كان هناك وقت لكي يستقر الغبار وتسود صيغة كامب ديفيد بعد ذلك. وهكذا في رأي بريجينسكي ترك كلينتون منصبه والعلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية في أسوأ صورها والشرق الأوسط في حالة غليان أكثر مما كانا عندما تولى منصبه، ولسوء الحظ فإن نظامه غير المكترث في صنع القرار والذي أفسدته الحسابات الرئاسية الداخلية قد أدى الى خلل استراتيجي كانت له معانٍ خطيرة لمصالح أميركا الطويلة الأجل، ولو كان كلينتون نجح في التوصل إلى تسوية عادلة للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي فإنه كان سيكسب لنفسه ولأميركا نجاحاً تاريخياً مهماً. في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، زار وفد من المجلس المصري للشؤون الخارجية واشنطن، حيث التقى مجموعة من خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة جورج تاون وكان بينهم بريجينسكي، وكانت مجموعة المحافظين الجدد بدأت تكرر دعوتها للحرب على العراق، ويذكر كاتب هذه السطور قول بريجينسكي التحذيري «إنه إذا كان دخول أميركا العراق سيكون سهلاً إلا أن خروجها منه لن يكون كذلك»، ولذلك أصدر بريجينسكي عام 2007 كتابه «الاختيار»، حيث اعتبر أن غزو العراق كان عملاً «كارثياً». ومع عام 2006، كان واضحاً أن تكاليف الحرب تعدت الإنجاز الإيجابي الوحيد الذي تحقق بإطاحة صدام حسين، وتسبب في ضرر فاجع لوضع أميركا العالمي فلم تعد قادرة على أن تجمع العالم حول قضيتها. وباعتبار أن «الاختيار» كتب في ظل تصاعد الإرهاب، يستخلص بريجينسكي ثلاث نتائج استراتيجية من تصور إدارة بوش للإرهاب باعتباره تهديداً للأمن القومي الأميركي، فمفاهيم مثل: من ليس معنا فهو ضدنا، وأن الضربات العسكرية الاستباقية هي من الأمور المبررة، وأن التحالفات الفورية يمكن أن تحل محل التحالفات الدائمة. هذه المفاهيم عند بريجينسكي تسببت في خلق قلق واسع في الخارج، أما البديل الذي يقدمه بريجينسكي لهذا الأسلوب فهو تحديد التحديات المركزية التي تواجه أميركا، والتركيز بوجه واسع على الغليان العالمي في مناطقه المختلفة ومظاهره الاجتماعية، وحيث الإرهاب يشكل تهديداً فعلياً فلا بد أن يؤدي ذلك إلى تحالف دائم وحملة واسعة ضد الظروف التي تكثف هذا الغليان، فالاستجابة الفاعلة للغليان العالمي، وإن كانت تتطلب اعتماداً على القوة العسكرية كمطلب جوهري للاستقرار العالمي، فإنها تتطلب التزاماً طويل المدى ينبع من الإحساس بالعدالة الأخلاقية وفي الوقت نفسه لخدمة المصالح القومية الأميركية. في الكتاب «الاختيار»، يعود بريجينسكي أيضاً إلى التركيز على السياسات الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط، ويعتبر أنه مع عام 2006 كان يجب أن يكون واضحاً لإدارة بوش أن الولاياتالمتحدة أو إسرائيل، إحداهما أو معاً، لن تكون لهما القدرة على سحق وإعادة تنظيم الشرق الأوسط بشكل يتفق تماماً مع تصورهما، فالمنطقة واسعة جداً وشعبها أقل استعداداً لأن يخاف وأكثر قابلية للاستثارة والكراهية والغضب، وأعداد متزايدة على استعداد لأن تندرج في مقاومة مركزة أو إرهاب بلا عقل، وكلما كان رد فعل أميركا وإسرائيل توسيع نطاق العنف المضاد كان من الممكن أن تستدرجا في حرب طويلة ومتعبة. بعد رحيل بريجينسكي، أشعر بأن العالم العربي لم يهتم بهذا المفكر الاستراتيجي، ولا أذكر أن جامعة أو مركزاً بحثياً عربياً قد دعاه للحوار حول قضايا المنطقة والسياسة الخارجية الأميركية. * كاتب مصري