السجال الذي تشهده زيارة البطريرك الماروني، الكاردينال بشارة بطرس الراعي، الى الاماكن المسيحية الفلسطينية المقدسة في القدس وبيت لحم والناصرة والجليل، تجاوز الحدود اللبنانية، الى القدس وداخل الخط الاخضر. لكنه، سجال من نوع آخر، فهنا يتغلب الصوت الفلسطيني الداعي الى الإفادة من هذه الزيارة لخدمة القضية الوطنية وعدم الاكتفاء بها كزيارة دينية محضة. ففي هذه الايام، تشهد الاماكن المقدسة، بخاصة الكنائس، ويشهد المسيحيون هجمة اسرائيلية متعددة الاتجاهات: عمليات تهديد متصاعدة لكبار رجال الدين المسيحيين تطالبهم بالرحيل، كتابة شعارات عنصرية تمس العرب عموماً بمن فيهم المسيحيون، على جدران الكنائس، اجراءات يتخذها الجيش الاسرائيلي لسلخ الشبان المسيحيين عن بقية شرائح شعبهم وممارسة الضغوط عليهم للتطوع للخدمة العسكرية، التعرض للقوى الوطنية في الطوائف المسيحية واعتقال بعض الشبان وملاحقة آخرين ممن اتخذوا خطاً واضحاً في مقاومة محاولات تجنيد شبابهم. وفي هذا السياق، يأتي الدعم لزيارة البطريرك والمطلب باستغلالها لصد الهجمة الاسرائيلية. ملامح الخطة الاسرائيلية لضرب المسيحيين بالمسلمين بدأت تظهر في السنة الماضية وتفاقمت خلال الاشهر الاخيرة مع إرسال رسائل من قيادة الجيش الى الشباب المسيحي تدعوهم فيها الى التجنيد و «تبشرهم» بأنها ستقيم لهم وحدة خاصة في الجيش الاسرائيلي. الرد المسيحي لم يتأخر، اذ ان القيادات السياسية والدينية، وكلها معروفة بمواقفها الوطنية تاريخياً، رأت في هذه الدعوة محاولة لتشويه حقيقية موقف المسيحيين وتجريدهم من هويتهم وكيانهم وقوميتهم الفلسطينية. وهذا ما جعل الاصوات الداعمة والمرحبة بزيارة البطريرك الراعي هي الاقوى في السجال الذي تشهده البلدات العربية داخل الخط الاخضر، إذ إن فلسطينيي 48 عموماً يتابعون نشاط غبطته وتحركاته الواسعة على المستوى العربي وعلى المستوى اللبناني فطمحوا الى الإفادة منها في معركتهم المتجددة. البطريرك اللاتيني السابق في الأراضي المقدسة، والشخصية الفلسطينية الوطنية المعروفة بمواقفها، ميشيل صباح اعتبر معارضة زيارة الراعي انطلاقاً من انها تطبيع مع اسرائيل، خطأ كبيراً ودعا الى التفكير بعمق في هذا الموقف قائلاً: «نحن نعيش واقعاً اصبح حياتنا اليومية، واقع معاناة ومقاومة ولا يجوز أن ينظر الينا أشقاؤنا العرب من الخارج، مسيحيين كانوا او مسلمين، نظرة غريبة ويرفضون التعامل معنا حتى لا يتم التطبيع مع اسرائيل. فهذه وجهة نظر مغلوطة لأننا نحن نعيش معاناة اولاً لأننا فلسطينيون ومن اجل القضية الفلسطينية، وهي قضية عربية فلسطينية، ولذلك نحن بحاجة الى من يقف الى جانبنا ويساندنا في معركتنا الدينية والسياسية والقومية هنا في الداخل». حديث صباح مع «الحياة» جاء في أوج الحملة الشعبية التي يقوم بها فلسطينيو ال48، المسلمون جنباً الى جنب المسيحيين، للتصدي لسياسة اسرائيل في تجنيد الشباب المسيحي للجيش والتي يقوم بها «منتدى» خاص أقامه أحد الكهنة المنبوذين، ويدعى جبرائيل نداف، ويتم تمويل نشاطاته من جهات سلطوية. وأمام هذا الوضع يرى صباح ان زيارة الراعي تشكل سنداً قوياً للمسيحيين بكامل هويتهم كفلسطينيين وكعرب ايضاً. ويقول:» قدوم شخصيات كبيرة يكون رمزها هو رمز حياة، هو قوة لكل الناس الموجودين هنا. فالسياسة الاسرائيلية ادخلتهم في حال من الإرباك. البعض منهم اخذ يحتار في أمره بين من يقول نذهب الى الجيش ولا نذهب ومن يقول نحن مسيحيون فقط ولسنا عرباً... امام كل هذه الحيرة تأتي زيارة شخصيات ورموز من هذا النوع وتضع الامور في نصابها فلا البابا ولا البطريرك الراعي يسمح بأن يقول انا مسيحي فقط... فكل مسيحي له شعبه وقوميته، الفرنسي فرنسي واللبناني لبناني والفلسطيني فلسطيني ومن ثم وجود الراعي هنا هو عودة الى الحقيقة». وأضاف صباح: «الرسالة الدينية عندما تأتي في مكان معاناة مثل اسرائيل، تتحول الى رسالة قومية. ورسالة دينية لا يمكن ان تتحول الى رسالة قومية منحرفة فرسالة دينية صحيحة معناها الاخلاص للذات والرسالة المسيحية التي يحملها البطريرك الراعي ستعبر عن هذا الإخلاص وعن ضرورة البقاء في الداخل العربي والمسيحي والفلسطيني، الذي هو في حالة معاناة ونضال ومقاومة. والبطريرك الراعي يعرف مكانته ويعرف رسالته انها رسالة دعم لشعب في حالة معاناة ومن ثم رسالة قومية». وصول البطريرك الراعي الى القدس سيكون الرسالة والزيارة بحد ذاتها تشكل تحدياً كبيراً، فالقدس تعاني من أضخم وأبشع عملية تهويد في تاريخها، تستهدف تقليص وربما تصفية معالمها العربية، أكانت مسيحية ام اسلامية كما تعاني هذه المدينة المقدسة من عملية سلخ عن الضفة الغربية لا سابق لها. وستكون زيارة بيت لحم محط أنظار العالم لما تعانيه هذه المدينة من حصار احتلالي يستهدف جعل العيش فيها مستحيلاً. اما البلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر فالأيام الثلاثة التي سيقضيها البطريرك الراعي في حيفا وكفربرعم والناصرة وغيرها من هذه البلدات، لن تقتصر على الصلوات بل على لقاءات هامة ابرزها مع الشباب المسيحي، وهذه اللقاءات ستشكل الركن الاقوى لهذه الزيارة. فالأوضاع التي يعيشها المسيحي وانعكست عليه سلباً على مدار سنوات دفعت بالكثيرين من الشباب الى الهجرة والخلفية نفسها ايضاً دفعت الى الخدمة العسكرية في الجيش الاسرائيلي، من طرف بعض أصحاب النفوس الضعيفة. واليوم مع تصعيد الحملة ضد الاماكن والكنائس المسيحية والتهديدات التي وصلت الى حد ألزمت الكنيسة الكاثوليكية في القدس بإزالة كتابات ترحيب بالبابا وزيارته ومن ثم التهديدات المباشرة التي تصل الى رجال دين وأخطرها تمثل في الرسالة التي وصلت الى مطران اللاتين في الناصرة، بولس ماركوتسو، ويطالب كاتبوها بطرد المسيحيين... امام كل هذه الوضعية، المقلقة والمحبطة احياناً، ستكون لزيارة الراعي، اهمية. وكما أكد صباح: «لعل حضور البطريرك الراعي يدعم ضرورة ان نقف كمسيحيين فلسطينيين بقوة امام المجموعات اليهودية العنصرية التي تهدد باعتداءاتها وكتاباتها، وتخرج من هنا رسالة بأن يكون المسيحي وكل من يتعرض لمثل هذه الاعتداءات قوياً وعاقلاً وحكيماً». يقول الباحث في الشؤون الاسرائيلية، نظير مجلي إن هذه الزيارة تحمل أبعاداً كبيرة للمصلحة الوطنية الفلسطينية والعربية. ويضيف: «نحن المسلمين، وليس فقط المسيحيين، نتابع الدور الذي يؤديه غبطة البطريرك الراعي في لبنان ويتسع أيضاً ليشمل عالمنا العربي، ولا شك في انه يرفع من شأن التلاحم الاسلامي- المسيحي في مواجهة التحديات العربية. لا يجوز لنا ان نخاف من زيارته، فحضوره يعزز الوجود العربي والفلسطيني في الأراضي المقدسة». ولفت الى ان الهجمة الاسرائيلية على المسيحيين الفلسطينيين من أراضي 48 تستهدف بالتالي توجيه ضربة للقدس. ويقول: «في عام 1997 شهدنا هجمة شبيهة، في ما يعرف بقضية شهاب الدين في الناصرة. ففي حينه أيضاً كما هو الحال اليوم كان رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو وكانت تجرى مفاوضات اسرائيلية- فلسطينية وكانت تطرح قضية القدس على الطاولة. وقد افتعل نتانياهو تلك الأزمة في الناصرة وتطوع الاسلام السياسي ممثلاً بالحركة الاسلامية، لخدمة الهدف. فراحوا يطالبون ببناء مسجد ذي مئذنة بطول 70 متراً حتى تصبح اعلى من كنيسة البشارة. وهدف نتانياهو أن يظهر المسلمين الفلسطينيين كمن يقمعون المسيحيين ليثبت ان القدسالشرقيةالمحتلة يجب ان تبقى بأيدي اسرائيل. وهذه المرة أيضاً أثيرت قضية تجنيد المسيحيين في عز المفاوضات. لكن الأمر يبدو مكشوفاً وفاشلاً، لأن الوعي الاسلامي والمسيحي زاد وتعمق خلال هذه السنين. وتأتي زيارة قداسة البابا وغبطة البطريرك لتعزز هذا الوعي وتعمقه أكثر وتفتح الباب أمام حجيج عربي مسيحي وإسلامي، الى القدس. فالأماكن المقدسة تحتاج الى هذا الحضور العربي في معركتها ضد جرائم التهويد». والمعروف ان حكومات اسرائيل منذ قيامها، تعمل بكل ما في وسعها لكي ينسى العرب تلك الشريحة الباقية في وطنها رغم النكبة. ومنذ احتلال 1967، تسعى بكل قواها لكي ينسى العرب القدس وبيت لحم والناصرة وغيرها من الأماكن المقدسة المسيحية والاسلامية والدرزية. فهي تريد ان تكون هذه البلدات وغيرها محجاً لليهود القادمين من كل أصقاع الأرض. وتريد ان يؤم الحجاج المسيحيون من اوروبا وآسيا هذه الأماكن في اطار تشجيع السياحة، اذ إن كل سائح يصرف في اسرائيل 1000 دولار، وقدوم 3 ملايين سائح سيدخل الى خزينتها 3 مليارات دولار على أقل تعديل. ولكنها لا تريد زيارات العرب والمسلمين حتى لو صرف الواحد منهم 20000 دولار، وذلك خوفاً من ان يتغير طابع هذه الأماكن وتعود إلى انتمائها العربي. وهكذا، فإن ما تراه من القدس ليس كما تراه في بيروت، للوهلة الأولى على الأقل. الحسابات الفلسطينية تصب اليوم في اتجاه تعزيز الوجود العربي في القدس. وليس صدفة ان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، رحب بزيارة الراعي وهاتفه مرحباً، ومعتبراً استقباله في فلسطين، بعضاً من رد الجميل الى لبنان.