لماذا أتيت إلى الشعر؟ هل خانك النطق بالقول أم هزمتك الأساطير في النثر؟ أم كنت طفلاً تقود البيوت توهّمَه في الظهيرة، نحو الذي يترآى له صافياً كالسحابة، لكنه لا يراه على رفرفات الثياب؟ لماذا ذهبت إلى الشعر؟ هل كنت تبحث عن غابة للعلامات، تُخفي بأغصانها جمرة الحزن؟ أم أسَرَتك الغواية في فتنة الصمت كيما تشيّد بيتاً على النهر تأوي إليه طيور السوال؟ على رغم أن سؤال «لماذا أتيت إلى الشعر»، ينتظم في الأفق الذي يطرحه سؤال «لماذا نكتب»؟ في حقولٍ أخرى، كالسرد والفكر والفلسفة والسياسة والتسلية، إلا أن كل تجربة شعريّة ستبدو لنا وكأنما هي لمعان للشعر في فخاخ «الفقْد».. ليس في فقد ما نعرف أو نملك أو نحبّ، وحسب، وإنما في ما نفتقده من متطلبات ممارسة الإنسان لحقه في الحياة، إذ يصبح انفعالنا الجمالي بالكتابة حالاً من حالات تجاوز عنف ذلك الفقد، للإمساك بأضداده الحلميّة في قصيدة! لو كان لي قلب، لرافقني على الدرب الذي يفضي إلى قلبي، وحرّرَني، لأمضي دونما حَرَس إلى باب القصيدة. القلب المُرتجى هنا هو نتاج حالة «الفقد» وموقع كمائن احتمالات اقتناص الحالات الشعرية ومصائدها اللغوية، حتى لا يبقى أسىً دامياً يسيل على الأصابع وأحجار الطريق، وإنما ليتحول إلى انشغال إبداعي يسرج خيوله من مثالات الحلم وفتوّة الآمال وجموحها، وإلى مهاٍ لتخليق ما يمكن أن يجعل المفقود حاضراً، وإن بشكل آخر، ومن المستحيل وجوداً معاشاً، وإن في مأزقه النسبي المتاح! عرفتُ ينابيع «الفقد» و«النسيان» في زمن الطفولة، ورأيت كيف تصارعا، حواراً وجدلاً وتعارضاً، حتى استحالا إلى علامتين مختلفتين كلياً عن أصليهما البعيدين. لذلك لم يحضر أولهما حينما كتبت أولى قصائدي الشعبية، على رغم أنني فقدت أمي وأنا أبن السادسة، أما الثاني فقد صحبني بحنوّ لمغادرة الشعر الشعبي الذي عشقته وما زلت، إلى اللغة الفصحى. ترى كيف احتفظتُ بتلك الينابيع - على رغم ما مررت به من أحداث مزلزلة - طوال كل هذه العقود؟ ربما يمكن الوقوف على فواعل كثيرة لعبت دورها في كل ذلك، ولكنني أعتقد أن أهمها هو ارتباط حالات الفقد والنسيان بكتابة الشعر.. إذ إن النسيان قد أورثني فضيلة الصفح والتجاوز بل والغفران، ومنحني مهارة التجدد والانفتاح على المختلف، أما الفقد فيعود إليه الأثر العاطفي الأمضى في صياغة اهتماماتي وتأملاتي وما أراه في واقعيتي، التي غالباً ما تنظر إلى النصف المليء من الكأس، لا اكتفاءً به وإنما في النظر إليه كحالة «فقد» مفتوحة على أبواب العمل على استكمال النقص، بدأبِ المحب ونزق الطفل وشفافيته! لم يكن زمن طفولتي مناخاً حاضناً للثقافة العارفة في مقترباتها العديدة، وإنما كان حقلاً لتبديات الثقافة الشفوية التي صاغت مسكوكاتها في «الأمثال» والحكايات والشعر الشعبي، ولذا جاءت طعنة الشعر الأولى في تجربتي قصائد شعبية قصيرة غير موفّقة، وكان «للنسيان» دوره في وأدها المبكر، إذ إن الشاعر الشعبي الذي يقف أمام الجمهور لابتكار قصائده يحتاج للذاكرة الحديدية التي لا أتوفّر عليها! ولذا أخذ القلم والورقة موقع الذاكرة لمحاربة سطوة النسيان في تجربتي الشعرية، حين انتقلت من إطار ثقافة رعوية شفوية إلى عتبات أفق مرجعية ثقافة عارفة تكتب بالفصحى، فقبسَت القصيدة الأولى لحظة ولادتها من شرارة حَدَث سياسي مهم. كان والدي، العروبي الناصري بالفطرة والمناخ العام، يصغي للمذياع الذي كان يبثُّ وقائع مؤتمر القمة العربية المنعقد عام 1964 بالقاهرة، وقد وصَف المذيع، بفرح عفوي، استقبال الرئيس عبد الناصر للملك سعود بقوله: «وقد يجمع الله الشتيتين بعدما\ يظنان كل الظن ألا تلاقيا». كان الزعيمان على خلاف واحتراب في اليمن، ولكن اللحظة الحاسمة جمعتهما، فابتهجت وكتبت أولى محاولاتي الشعرية باللغة الفصحى: «إلى القمة العلياء وهي فتيّة\ تهبّ إليها روحنا العربيةّ»، وقد استقبلها والدي بسعادة، على خلاف استقباله لقصائدي بالعامية، وقال: لعلك تصبح شاعراً مثلَ جدك الذي كان فقيهاً وإماماً وكاتباً لقريتنا وغيرها! * * * وعلى رغم تلك اللحظة الخاصة، إلا أن تباريح الشعر قد نمَت في طفولتي عشقاً صوفياً للجمال المنبثّ في الأشياء والأرواح والكلمات، وشغلت المرأة فيه موقعها المركزي، ولهاً وافتتاناً. وفي تلك الحدائق والحرائق يأخذ «الفقْد» بهاء تشكّلاته، إذ لا يبقى نزفاً جارحاً وحزيناً وحسب، وإنما ليتجسّد كتجربة وجدانية تتألق عبر قنطرة الفن الذهبية، التي تصل ما بين أتون الفقد الوجودي وبين حالات تخييل اقتران شغف الروح بأشباهها البعيدة ومثالاتها المادية. ثم ما لبث مخيال ذلك «الفقد» الإيجابي - عبر فاعلية الثقافة والزمن - أن أصبح في تجلياته اللانهائية بحثاً عن معاني التشكّل والولادة الدائمة، المزدانة بامتزاج حلم الحرية بوهم التسامي الأخلاقي والمسؤولية البشرية، لرسم صورة الوطن العزيز الشامخ كجنّةٍ أرضية للإنسان. وفي هذا الحقل الشعري تأخذ قيم الخير والعدل والمحبة والمساواة والسلام، ألوانها الزاهية في الوجدان كتطلّع دائم لإكمال ما ينقص صورة الوطن من عتبات لكي يتجاوز عتمة الفقد إلى مباهج الاكتمال. *** أما «النسيان» فقد رافقني حين غادرت القصيدة الشعبية إلى العمودية ومنها إلى قصيدة التفعيلة منذ عام 1968، يوم استقرّت رحلتي في قرية كلية البترول والمعادن بالظهران، التي تشبه آنذاك بادية المدينة. وعليك أن تنسى لكي يصف اليمام مباهج الطيران فوق بيوته الأولى ويمضي نحو بادية المدينة. وإذا كان الصديق الناقد الدكتور سعد البازعي قد قال بأن قصيدة النثر هي قصيدة المدينة بامتياز، فإنني أرى أن قصيدة التفعيلة في عالمنا العربي هي «قصيدة المدينة» باشتباكها بمتن حركة الناس وهمومهم الاجتماعية والثقافية والفنية والسياسية في أبعادها اليومية والسيكلوجية والوطنية والإنسانية العامة، أما قصيدة النثر فقد تبلورت خلال العقدين الماضيين في بلادنا والعالم العربي لتصبح «قصيدة الفرد» في المدينة، عبر مشاغلها واستهدافاتها، إذ يحتفظ فيها الشاعر بذاته حرّةً في تحليقها، خارج إطار أي أنموذج أو قيد أو نمط أو انشغالٍ بشأنٍ عام! وقد جرّبت كتابة قصيدة النثر منذ عام 1975، ولكنني وجدت حال «الفقد السلبي» مهيمنة عليها، كما أن صديقي «النسيان» لم يعني على مغادرة جماليات مباهج شعر التفعيلة، في أبعادها التركيبية والإيقاعية والتأملية والتواصلية، فتشبّثتُ بموقعي فيها حتى اللحظة! وعلى رغم ما تبلور من اختلافات في التشكيل والدلالات، بين حقلي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، إلا أننا نعرف جميعاً كم عانت قصيدة التفعيلة مبكراً في بلادنا من حصارٍ متناسق، اجتمعت فيه سطوة الذائقة المحافظة ثقافياً واجتماعياً ومؤسساتياً، مع فعالية تغييب مصادر التجربة الحداثية المزدهرة في المراكز العربية الكبرى، فغابت الدواوين المؤسسة لشعرية الحداثة وما رافقها من احتفاءات نقدية، عن مكتباتنا وجامعاتنا. وما كنا نصل إلى شيء منها إلا عبر المذياع أو بعض المجلات اللبنانية الاسبوعية، وما يتسرّب منها في بعض صحفنا المحلية. غير أن عنف تكريس مظاهر «الفقد» في حياتنا الثقافية بشكل عام ولّد طاقات التحدي ومنها «الحيْلَة»، فأصبح ديوان الشعر الحديث والمجلات الثقافية مثل «الآداب» التي يتم تهريبها في حقائب السفر، تمرّ بين أيادي عشرات الأصدقاء! وقد غدت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر رمزاً لحراك ثقافي واجتماعي يرى في تطورهما دفعاً لحراك الذائقة والفكر وحرية النظر إلى الحياة في كل مكوناتها، وأصبحت بالنسبة لي قضية ثقافية مركزية، انهممت بها من خلال إبداعي وعبر المنابر الثقافية التي أشرفت عليها أو أسهمت فيها بشكل رئيس، من ملحق المربد في جريدة اليوم منذ عام 1974، ومجلة «النص الجديد» منذ عام 1993، وحتى موقع منبر الحوار والإبداع منذ عام 2005، وإلى الغد أيضاً! وكغيري، متأثراً بالسياب وجيله، وكقروي اشتمل على مخيال حكائي شفوي طويل، أخذت قصائدي أبعادها الملحمية والتركيبية المنفتحة على الرموز التاريخية، وشغف الحنين إلى الأمكنة، والارتباط بالهموم الانسانية الوجدانية والتأملية، مثلما انفعلَت بالقضايا الوطنية والقومية. نعمة «النسيان» دفعتني إلى تجاوز أنموذج بيت الشعر العربي المكتمل بذاته، معنىً ومبنى، إلى أفق مغاير تغدو فيه القصيدة كلها وحدةً عضوية وحالة شعرية مترابطة جمالياً ودلالياً. كما منحتني تجربة قصيدة التفعيلة مناخاً لتجريب تعدد الأصوات وزوايا مقاربة الحالة الجمالية، وفتحت الباب لتعايش وامتزاج أنماط شعرية متعددة، تجمع بين العمودي والحر والنثر والشعر الشعبي، بغيةَ إبداع تجربةٍ لا ترتكز على شعرية القصيدة وحدها، وإنما على «شعرية النص» وفضاءات تعبيره وإحالاته وتأويلاته. وإذا كانت الأسطورة إحدى مقومات الشعرية العربية الحداثية، فإن غيابها عن تراثنا الثقافي المحلي هيأني كغيري لاستبدالها بالرموز التاريخية والمكانية، أو بالاشتغال على توليد أساطيري الخاصة، كما في الكثير من قصائدي. *** شفتان للمعنى وللمعنى معانٍ عدّةٌ ولي احتمالي! - في الشعر لا تكون المعاني ملقاةً على جانبي الطريق، كما قال بذلك جدنا الجاحظ، وإنما يغدو كل شكل جديد في هذا الفضاء تعبيراً عن معنى آخر متجددٍ ومتعددٍ أيضاً، للشعر والشعرية. - في الشعر لا تبقى الأحلام مجرد ثرثرةٍ ممكنة، وإنما تغدو إمكاناً متحققاً نلمسه باليدين، إذ تلبس الكلمات فيه عريها الطازج، وتستعيد بكاراتها المنتهكة. - في الشعر أقبض على حصتي من بناء الكون، وحريتي في هجاء القبح، وشجاعتي في إعلان هويتي وحسي الإنساني الراني إلى أضواء الغد الأجمل والأعدل والأكمل، وفيه تتجلّى لي فتنة الجمال ومباهجه الحسيّة الراعشة، فأرتوي من ينابيعها حتى ثمالة اكتمال النص. ولذا، سأقول لبراكين «الفقد»، ومباهج «النسيان»، شكراً يا رفيقيّ الشعر والارتحال! الظهران 7\7\2017 قرئت هذه الشهادة الشعرية في مهرجان عكاظ الثقافي بالطائف - 15 يونيو 2017.