أنا وهذا الكائن الخرافي «الشعر»، نتبدّى -على الوجه الأول من الورقة- صديقين يجتمعان على افتتانهما بالمرأة. وأنا والشعر -على وجهها الآخر- غريمان يقتتلان على الماء، حول الرموز اللانهائية للمرأة! يطلبني حين أسهو عن تأمل ابتسامة زهرةٍ تطلّ من بين أغصان الحجر، أو طريقٍ تقودنا تعرجاته إلى السماء، أو عن وجوهٍ وأسماء وأمكنة تلمع حتى في ساحات النسيان اليابسة، فلا تشبه إلا نبض قلب طائرِ صغير يرقص تحت جناحي أُمِّه في العشّ. وأطلبه حين يثملني العطش من شدّة وجدي الحُلميّ بمباهج الحياة، أو حينما تغدو «هي» وحشاً عارياً لا يرتوي إلا من سيول دمي، على حين قلقٍ، يدهشني، ويربكني، ويبدّل مواعيد نومي، وأسماء حبيباتي، وعناوين كتبي، ومحابر قلمي، فأتبعه حتى لا أقبض منه إلا على الأنين. وأنا كأحدكم، وكواحدٍ من ملايين الشعراء الذين نهلوا من ذلك النهر الخالد، لا أجرؤ على تحديد «ماهية» الشعر الجوهرية، ولا صفاته العرضية، وإن كنت أستطيع ببساطة أن أشير بحسب ذائقتي- إلى ما ليس شعراً، أو إلى كل ما لا يمتّ بصلةٍ إلى ذلك النهر. لذلك ليس لي، في هذه المناسبة الحميمية حتى ينابيع الشعر، إلا الذهاب إلى الطريق الذي قادني صوب تلك القبس الفاتنة، والتي ما فتئت تشعّ بغموضها البهيّ في ذاتها، وفيما تعيننا على اقتباسه من آثارها الباقية، في تراث الراحلين، وفي خطى القادمين بلا ريب، من لا يعشق «امرأةً» لا يكتب شعراً. سيبدو لمن يتأملُ حياتَه من على قمة الزمن أن جذور الكثير من المشاعر والتفاعلات، التي ما زالت تحرك الوجدان والمخيلة، تكمن هنالك بهدوءٍ خصبٍ، في أعماق الطفولة. طفولتي لم تكن سعيدةً، حتى بنسبية حياة تلك الأيام، حيث ماتت أمي وأنا في السابعة من عمري، وأبي كان بعيداً عنا للبحث عن لقمة العيش الكريمة للعائلة في «أرامكو» بالظهران، ولكن حنان جدتي لأبي، وجدتي وجدي لأمي، رعوني من قسوة فقد الأم، الذي ما زلت أستشعره حتى اليوم؛ لأن الحنان لا يسيل خصباً ورائقاً إلا في علاقتنا بالأجداد. هم يتمسّكون بنا كمخيالٍ لأزمنة الصبا، ونحن نتعلّق بوجودهم الذي يمطرنا بنهر الحنان والعذوبة التي لا نجدها إلا في عيونهم وابتساماتهم، وفي مسكوكات كلماتهم العفوية: «فديت البدية ومن هي بديته»، «فديت الصوت ومن هو صوته»، «الدفع بي عنك يا خه». ولكل هذا صار صباي الفقير يبحث عن اكتماله في الشغف الوقور بالمرأة، ككائنٍ أسطوري يعصمني من قسوة الفقد والحرمان والانكسار الجريح، وبالمرأة ككائنٍ بشري ينطوي على كل أسرار الجمال ومعاني الحياة، ومباهج الكون، حتى عشقت ظلالهن في الحقول، وجلالهن حين يحملن» قِرَب» الماء على ظهورهن من بطون الأودية السحيقة، مثلما كنت أجدني أقربَ الكائنات إليهن حين يرقصن أو يغنين، أو حين يبكين. هذا التولّه والوجد والبحث عن مخيال الحب في «الأم» التي فقدتها، قادني كالسيل في بطون الأودية، إلى التعلّق بالمرأة، منذ أزمنة طفولتي الغضّة، فكتبت في قصيدتي «معلقة الطائر الجاهلي»: « ولي في قراها عاشقاتٌ وإنني/بلغتُ الهوى في الخمس من سنواتي». لقد تفتّح القلب على عشق النساء مبكراً، ولهذا أرى، بعين حكمة المسنين وجنون الصبا أيضاً أن من لا يعشق امرأةً لا يمكن أن يكتب شعراً. في الطريق إلى «خيمة الشعر» الشعر كالهواء، يعيش بيننا، ويفتح أعيننا على جماليات تفاصيل المعاش اليومي والكوني، مثلما يعيننا على امتلاك القدرة لمقاومة عنف الحياة وقسوة أيامها. ولكنه لا يمنح بعض مفاتيح أسراره ومغاليقه، إلا لمن يسير -جاداً- في الطريق إلى منزله البعيد.. «منزل الشعر». وقد وجدتني منذ الطفولة أمضي مغمض العينين -بقلبي- إلى ذلك الطريق، عبر قنطرة الشعر الشعبي الذي كان حاضنةً لمشاعر الإنسان وتربية ذائقته في «منطقة الباحة»، بحكم النشأة وسنوات التكوين الأولى. ولسوف أحتفظ دائماً، وبحبٍ، بدوره في تنمية حقول وجداني ومخيالي الشعري المبكّر. الشعر الشعبي والغناء: جدي لأمي، لا ينحدر من قريتنا «محضرة»، وإنما ينتمي إلى قريةٍ بعيدة عنا -بمقاييس مواصلات ذلك الزمان- اسمها «بني مشهور». كنت أعيش معه لفترات طويلة في قريته وفي خدره البدوي لرعي الغنم في المشرِق، وكنت أنصت إلى صوته، وهو يغني بحرقةٍ وحزن، كلما استبدّ به الألم، قصيدةً شعبية لشاعر لا أعرف اسمه، حيث تسرّبت بعض أبياتها إلى ذاكرتي الطفلية، ومنها قوله: أما العرضة التي لم أعرف ها إلا في العاشرة، بعد أن استقرّ المقام بفقيه قريتنا وشاعرها محمد بن صارم بيننا، فقد كانت طقساً احتفالياً أخرجني من انطوائي على ذاتي الخجولة إلى المشاركة مع الجموع المحتفلة بأول أيام عيد الفطر. لقد غمرتني كلمات الشعر المغنّاة في العرضة والرقص المنتظم على إيقاع «الزير»، في نهرِ الموسيقى الرهيف، ولذلك أرى أن التوطئات الإيقاعية التي يفتتح الشاعر بها قصيدته مثل «يا للاله للاله/ يا للاله لله» (التي توازي/ فاعلاتن فعولن/فاعلاتن فعل)، هي تفعيلات منتظمة، تضبط إيقاعه الشعري، مثلما تضبط استجابة وحركة المشاركين في الاحتفالية ليندمجوا جميعاً في نسيجها الكلي الموحّد، وجداناً وعذوبةً ورقصاً. لماذا فشلت؟ سأسرّ لصديقي الشاعر صالح الزهراني بذلك! الشعر الشعبي وقصيدة التفعيلة: أبي كان يحفظ الكثير من القصائد لأبرز شعراء المنطقة، ويغنّي ما يناسب حالته النفسية حين يجلس على سطح بيتنا القديم، مطلّاً على الأودية من أعالي جبل «محضرة»، أو حين يرتاح من عمله في الحقول، فيهلّ صوته بعذوبة وحزنٍ شفيف، عبر ما ينتزعه من الذاكرة من القصائد القصيرة التي نسميها «قصائد الجبل». كان يستعيد قصائد عدة من شعر عملاقي شعر «الغزل»، لشاعر قريتنا حميد المحضري، وللشاعر الكبير أحمد بن جبران، وأستذكر للأول المعروف ب«أبوسحاب» هذا النص: «آمن من العدوان ما آمن لوح جاري/ جار عالزّلات ما اجراه/ ما اسرع فروق النحل من بعد الولوفات/فرق عاد وفرق ما جا/وبعد مية عامٍ يحيط المكر باهله!» هذا النص يقع خارج المجال التناظري، في الشعر الشعبي وفي سياق القصيدة العمودية، ولكنه ظل يتناسل منذ مئات السنين إيقاعاً ودلالةً في مسار التعبير العاطفي للوجد والوجدان الشعبي، من دون أن يثير سؤال المغايرة حول شكله الإيقاعي المختلف، والذي لم ألتفت إليه إلا في زمنٍ لاحق، حين اتّسعت التجربة والرؤية وضاقت العبارة، في المرحلة المتوسطة بالظفير (حوالى عام 1964) اطّلعت في مكتبتها الصغيرة على كتاب الأستاذ عبدالله بن إدريس «شعراء نجد المعاصرون»، ووجدت فيه عدداً من قصائد التفعيلة وقصائد النثر، ولكنني لم أعرها اهتمامي، ومضيت في كتابة بداياتي الشعرية على نهج القصيدة العمودية. لكنني، وبعد كل محاولة شعرية للتعبير عن حمولات عذاب وأشواق قيس ابن الملوح لحبيبته المستحيلة، أجدني ما زلت مشتعلاً بالوجد وكأن قصيدتي لم تصل إلى الحالات الدنيا من المقدرة على خلق معادلها «التطهيري» لنيران عواطفي الحارقة. كنت أطَّلِع على القليل الذي تنشره صحفنا المحلية والكثير الذي تحفل به الصحف اللبنانية، من قصائد التفعيلة -خلال مرحلتي المتوسطة والثانوية من دراستي-، ولكن أسوار الممانعة ظلت تعوقني عن التفكير في تجريب الكتابة على ذلك النسق المختلف. غير أنني وقد انتقلت من فضاء شعرية رعوية أو منعزلة، إلى ثقافة حضرية جديدة في المنطقة الشرقية، ألفيتني أعيش تجربة حبٍ مزلزل في «الخبر»، لم أستطع التعبير عنها إلا بكسر القيد وكتابة أولى قصائدي من شعر التفعيلة في نهايات عام 1968. لا شك أن مخيال تحولات الشاعر علي ابن الجهم حين انتقل من مناخ ثقافة البادية إلى المدينة، كانت تغريني بتطوير أدواتي، ولا شك أيضاً أن تجربة قصيدة التفعيلة في الوطن وخارجه قد أصبحت عنصر إغواءٍ حقيقي لي، ولاسيما بعد أن قرأت قصيدة نزار قباني «هوامش على دفتر النكسة»، ولكن الأهم من كل ذلك أن تراث قصائد الحب الجنوبية في قصائد «الجبل»، التي سمعتها من والدي، كانت أكبر شهادة تاريخية على إمكان كسر قيد النمط، والانفتاح على أبواب أخرى للتعبير عن الحالة الشعرية، وذلك ما شجعني على المضي في تجربتي المعاصرة، للإفادة من شكلٍ شعري جديدٍ، أكثر حريةً ومرونةً وأناقة. هل الموسيقى آنية وحيدة للشعر؟ ينبني تكويني الثقافي وحساسيتي الشعرية على ذائقة مفتونة بالاستمتاع بالجمال الذي يدهشها، أنّى كانت مصادره، أو تشكّلاته، ولذا ما زلت أبتهج بالقصائد الكثيرة الخالدة في ذاكرة ديوان الشعر العربي، وبإبداع المتألقين من شعراء التفعيلة، وبالمترجمات من قصائد شعراء العالم، وبشعر المدهشين من شعراء قصيدة النثر العربية، على حد سواء. لذلك يمكنني الذهاب إلى القول بأن الإنسان في أزمنته السحيقة -حينما كانت الذات تمتلك كلّيتها» وحيدة أو متوحدة»- قد عبّر عن عاطفته بكلمات خالية من الموسيقى، أي أنه عبّر عن نفسه بقصائد النثر، ولكن التاريخ لم يحتفظ بشيء منها. أما حينما اكتشف البشر النار والزراعة وبدأت تستقر تجمعاتهم الصغيرة، فقد حفزتهم عمليات الإنتاج المشتركة على استبدال الهمهمات الجماعية المُعِينة على بذل مزيدٍ من الجهد في العمل، بكلمات تتناسب مع انتظام تلك الهمهمات الصوتية. ومن هنا ارتبط الشعر بالموسيقى، وسَهُل حفظهُ في الذاكرة، وغدت نواته الأساسية مرتبطةً بوجدان الجماعة وقيمها واحتفالياتها وحروبها وانكساراتها معاً. ولأن نهر الزمن دائم الجريان، فإن التطورات الحضارية المتعاقبة قد أسهمت في تطور جماليات التعبير الشعري وأشكاله أيضاً، لتغدو قصيدة التفعيلة إحدى تجليات سيرورة التطور المديني الضخم فيما تحيل عليه المدينة من دلالات ثقافةٍ وفكرٍ وحريةٍ في التجديد والإبداع. بيد أن قصيدة التفعيلة -وهي تتفاعل مع الرؤى الحداثية التي شملت النظم والقوانين والهواجس والتطلعات الباحثة عن مزيد من سعادة وحرية البشر- لم تقطع صلتها بالموسيقى والذاكرة والرموز، لا وفاءً أعمى للذاكرة، ولا خوفاً من مواجهة المجهول، وإنما تمسّكاً بفاعلٍ جمالي مهمٍ للخلق الشعري. وفي سياق البحث الدائم عن المتغير والجديد في سيرورة الحياة، تجيء قصيدة النثر، ليس لكونها «ابنة المدينة» فحسب، وإنما كدلالة على تحقّق الذات واستقلاليتها عن كل المؤسسات، وكعلامةٍ على اكتفائها بذاتها في شتى المناحي الحياتية والثقافية. وبذلك تستعيد مخيال الإنسان القديم كواحدٍ ومتوحّد، يعبّر بانطلاقةٍ حرّةٍ عن مشاغله وعواطفه، عارياً من استبطان ظلال الهمّ الجمعي، أو استعارة آنيته الموسيقية. قصيدة النثر ثورة، بحسب عبدالغفار مكاوي في الجزء الأول من كتابه الصادر في عام 1972، بعنوان: « ثورة الشعر الحديث.. من بودلير إلى العصر الحاضر»، وهي تشكّل قطيعةً مع الموسيقى، ولكن ليس مع المسار التاريخي للذائقة الشعرية، وهي تمثّل قطيعة مع ذاكرة الاستقبال الجمعي للنص، ولكن ليس مع الجمهور المعاصر، الذي بدأ يتفاعل معها وينفعل بشعريتها، رويداً رويداً. وسأسأل نفسي نيابة عنكم: لماذا لم تذهب إلى كتابتها؟ في الواقع أنني قد كتبت ونشرت عدداً من قصائد النثر منذ عام 1974، في الملحق الثقافي لصحيفة اليوم «المربد»، وفي مراحل أخرى قريبة، وتضمنتها بعض دواويني، ولكنني لم أجد ذاتي الفنية أو الثقافية تحديداً متحققةً فيها أو مخلصةً لها، لذا بقيَت بالنسبة إليَّ تجريباً لكتابة متنٍ شعري مختلفٍ، فحسب. وقد تعود المسألة إلى أسبابٍ عدة منها: أولاً: ارتباطَ أدواتي الإبداعية بمسار قصيدة التفعيلة، التي كانت إحدى قضاياي الثقافية الرئيسة، إبداعاً وصراعاً مع التيار المحافظ الذي كان يحاربها. ثانياً: قلت ذات مرة: «لا أجد ذاتيتي إلا في جماعة»، والجماعة هنا لا تعني مطلق الناس، وإنما تقصد أولئك الذين يشتركون معي في الرؤية والاستهدافات؛ لأن حضورهم في مخيالي وحضوري في وجدانهم يحرضني على إبداع الشعر والاستمتاع بكتابته. أما ذاتي المفردة والوحيدة، فلم تكن تشغلني كثيراً، حتى اليوم. ثالثاً: وهو الأكثر جوهريةً في هذا السياق، فإنه ينبني على قناعة جمالية ونقدية أيضاً، ترى بأن الشعر يتجلى دائماً «خارج كل قيد»، وأن الموسيقى عنصر إضافي وخارجي إذا ما قاربنا «آنية» شعرية القصيدة، ولكن حين يكون الشاعر متمكناً من أدواته، فإن الموسيقى ستغدو عنصراً داخلياً يُغني النص جمالياً، ويشعل حالات الاستقبال الجمعي والتفاعل الوجداني معه، مثلما نجد ذلك في شعر سعدي يوسف ومحمود درويش ومحمد العلي ومحمد الثبيتي وأمثالهم من الشعراء المتألقين، ولذا ما زلت اتشبّثُ بموقعي في خندق تلازم الشعر بالموسيقى، وقوفاً مع ذاتي وليس اصطفافاً ضد أي شكلٍ إبداعي آخر. أيها الأصدقاء: يتبقى الكثير مما يستحق الحديث معكم عنه، كعلاقتي بالفضاء المفتوح (الجبل، البحر، الصحراء)، وبالمدينة التي أعشق، وبالآباء الذين أنتسب إلى تراثهم في الشعر والثقافة، وكذلك النصوص المؤسسة لذائقتي الشعرية، وعن رؤيتي لمسار الشعر والشعرية في الحاضر والمستقبل، ولكن الوقت لا يسمح بالوقوف على كل تلك المحطات الكثيفة، وهو ما أتركه لكتابة أخرى. * شاعر سعودي والمقالة مقتطفات من شهادة شعرية قدمت أخيراً في مهرجان الشعر العربي بالباحة.